حين يصبح الكتاب مرآةً للوطن وأحلام أبنائه
سيرة الإلهام ووجوه تتنفس بين دفّتي خير جليس
ياس خضير البياتي
في زمنٍ تتسارع فيه الشاشات وتذوب فيه الذاكرة تحت ضغط «الترند» العابر، يطلّ علينا كتاب جديد للكاتب البارز أحمد عبد المجيد بعنوان «خير جليس وأسماء ملهمة. «ليس هذا الكتاب مجرد سجلٍ للأسماء أو أرشيفٍ للسِّيَر، بل هو محاولة لصياغة ذاكرة حيّة، ذاكرة تتنفس وتضيء، لتقول للأجيال إن الإنسان يمكن أن يكون فكرة تمشي على قدمين، وإن السيرة حين تُكتَب بحب تتحول إلى طاقة إلهام لا تنطفئ.
عنوان يحمل رؤية كبرى
الكتاب، الصادر عن دار الرفاه للطباعة والنشر في بغداد، يستثمر رمزاً عريقاً في الثقافة العربية هو «خير جليس» ليعيد الاعتبار لفكرة القراءة في زمن طغيان الصورة والمنصّات السريعة. أما عنوانه خير جليس وأسماء ملهمة فيبدو بمثابة بيانٍ صغير لرؤية كبرى؛ فـ»خير جليس» هو الكتاب نفسه بما يمثله من دعوة للعودة إلى لذّة القراءة، و»الأسماء الملهمة» هي تلك النماذج التي يقدّمها المؤلف كجسور بين الماضي والحاضر، بين الأصول الراسخة والطموحات الجديدة. بهذه الثنائية يذكّرنا العمل أن المجتمعات التي تنسى رموزها تفقد بوصلتها، وأن استعادة هذه الوجوه من رفوف النسيان هي مقاومة هادئة لثقافة التبخّر والسطحية.
بنية الكتاب وتنوّع الشخصيات
يتناول المؤلف، عبر أسلوب استقرائي موضوعي، سِيَر أكثر من خمسين شخصية تنتمي إلى حقول متنوّعة؛ من الأدب والفكر والفن والإعلام، إلى الطب وسواها من الميادين التي تُثري الحياة العامة. وقد ازدحم الفهرست بأسماء لامعة ومختلفة الاختصاص: عبد الحسين شعبان، ناجي صبري الحديثي، سعد البزاز، أمجد توفيق، شوقي كريم، جاسم الزبيدي، محمد بحر العلوم، نديم عيسى الجابري، باسم حمودي، ماجد السامرائي، عبد الزهرة البياتي، ياسين فليح المعيني، نيجرفان البرزاني، شبيب المالكي، عبد الأمير علاوي، حميد الشطري، ناجي جواد الساعاتي وغيرهم من الأسماء المهمة.
هكذا يتكوّن أمامنا مشهد بانورامي لعشرات الوجوه التي أسهمت، كلٌّ من موقعه، في إثراء الوعي وترميم صورة الوطن. يختار الكاتب شخصيات تركت «بصمة خاصة» في مجتمعاتها، فيربط بين إنجازاتها الفردية وحاجة الواقع إلى قيم الإبداع والمسؤولية والتفاني، فيغدو كل فصل نافذة على عالمٍ وتجربةٍ ودلالةٍ، لا مجرد بطاقة تعريف أو سجلٍ للمناقب.
القيمة الأبرز في هذا العمل أن المؤلف لا يعامل شخوصه كتماثيل رخامية، بل ككائنات حية تنبض بما فيها من تردد وجرأة وخيبات وانتصارات. يقترب من اليوميات، يلتقط التفاصيل الصغيرة، يربط بين لحظة خاصة وحدث عام، فيشعر القارئ أنه يجالس هؤلاء واحداً واحداً، ويصغي إلى حكاياتهم في مجلس هادئ لا في قاعة درس جافة.
الأسلوب الفني والصحفي
يمتلك الدكتور أحمد عبد المجيد قدرة فريدة على الجمع بين صرامة الباحث ورهافة الكاتب الصحفي، فيغدو النص عنده مساحةً يتجاور فيها العقل والوجدان، المعلومة والدهشة، الدقة والخيال. فالسِّيَر التي يخطّها لا تأتي في هيئة ملفات جامدة أو تراجم تقليدية، بل تنبض بالحياة كما لو كانت مشاهد مسرحية تُعرض أمام القارئ لحظة بلحظة.
يستعين المؤلف باللمحات الإنسانية واللقطات الدرامية القصيرة ليمنح كل شخصية ملامحها الخاصة، فيحوّل السيرة إلى لوحةٍ قصصية مشوّقة، تتداخل فيها التفاصيل الصغيرة مع الأحداث الكبرى، فيشعر القارئ أنه يجالس الأسماء المبحوثة في مجلسٍ حيّ، يسمع منهم مباشرةً حكاياتهم، ويشاركهم لحظات التردد والانتصار، الخيبة والجرأة.
اللغة التي يكتب بها المؤلف لغةٌ رشيقة لكنها رصينة، شاعرية دون أن تنزلق إلى الإفراط، صحفية دون أن تقع في فخ السطحية. إنها لغة تمسك بالمعلومة كما يمسك الصحفي بخبرٍ عاجل، لكنها في الوقت نفسه تصوغها في قالب حكائي يألفه القارئ ويستريح إليه، فلا يغادر أرض الدقة والمصداقية، ولا يفقد متعة السرد وحرارة الحكاية.
بهذا المزج، يتحول النص إلى فضاءٍ متعدد الطبقات: فهو بحثٌ يوثق، وصحافةٌ تروي، وأدبٌ يلمس الروح. ومن هنا تأتي فرادة الكتاب؛ إذ يقدّم السيرة الذاتية لا كوثيقةٍ باردة، بل كرحلةٍ إنسانية تُضيء الطريق، وتذكّر القارئ أن وراء كل اسمٍ قصةً تستحق أن تُروى، وأن وراء كل تجربةٍ بذرة إلهام يمكن أن تنبت في وجدان الأجيال القادمة.
قيمة الكتاب في السياق الثقافي
تكمن أهمية الكتاب في أنه لا يكتفي بملء فراغٍ معرفي في توثيق سير شخصيات عراقية وعربية معاصرة، بل يتجاوز ذلك ليؤسس لرؤية ثقافية جديدة، رؤية تجعل من السيرة الذاتية أداةً لإحياء الذاكرة الجمعية، ولإعادة الاعتبار إلى رموزٍ أسهمت في صناعة الوعي والمعرفة، لكنها لم تنل ما تستحقه من التعريف والقراءة المتأنية.
في زمنٍ تتصدّر فيه ثقافة «الترند» القصير، حيث تُستهلك الأسماء والأحداث بسرعة وتُطوى الصفحات قبل أن تُقرأ، يأتي هذا الكتاب ليذكّرنا بأن الإنجاز الحقيقي لا يُبنى في لحظة، بل يتشكّل عبر سنواتٍ من الكفاح والمعرفة والتجربة. إنه يضع أمام القارئ نماذج حيّة تؤكد أن التراكم هو سرّ الإبداع، وأن الصبر والمثابرة هما الطريق إلى أثرٍ يبقى في الذاكرة.
وبهذا المعنى ليس هو مجرد توثيق، بل هو دعوة ضمنية للقرّاء، وبخاصة طلبة الإعلام والعلوم الإنسانية، كي ينظروا إلى السيرة الذاتية لا كحكاية ماضية تُروى للتسلية، بل كخارطة طريق تُرسم بها أدوار الأجيال القادمة ومكانتها في خدمة مجتمعها ووطنها. إنه يعلّم أن السيرة ليست أرشيفاً بارداً، بل تجربة إنسانية متدفقة يمكن أن تتحول إلى درسٍ عملي، وإلى طاقة إلهامٍ قادرة على مقاومة الإحباط واللا جدوى.
وبذلك يغدو الكتاب مشروع ثقافي يواجه ثقافة الاستهلاك السريع، ويعيد الاعتبار لفكرة العمق والرسوخ، مؤكداً أن المجتمعات التي تحفظ سير أعلامها وتقرأها بوعي، هي المجتمعات التي تملك القدرة على الاستمرار، وعلى مواجهة العواصف بذاكرةٍ لا تنطفئ.
خاتمة: سيرة الإلهام
في النهاية، يبدو كتاب «خير جليس وأسماء ملهمة» مرآةً صافية تعكس شخصية مؤلفه الدكتور أحمد عبد المجيد؛ هادئاً في نبرته، رصيناً في لغته، عميقاً في أثره. يقدّم مادته بلا ضجيج أو استعراض، ويترك أثره في القارئ عبر سلاسة السرد وعمق المعنى.
ينسج المؤلف نصوصه بخيوط دقيقة متأنية، لا يلهث وراء الإثارة العابرة، بل يوازن بين الدقة والخيال، بين المعلومة والتحليل، ليغدو النص مساحةً يتجاور فيها العقل والوجدان، المعلومة والدهشة. وهكذا يصبح الكتاب امتداداً لروح مؤلفه، صورة حيّة لثقافة تؤمن أن الكلمة جليسٌ وفيّ، وأن الصحافة ليست ملاحقةً للأحداث فحسب، بل حراسة لذاكرة الناس.
«خير جليس وأسماء ملهمة» ليس مجرد كتاب، بل مجلس طويل من الحكايات، يذكّرنا أن السيرة حين تُروى بصدق تتحول إلى طاقة إلهام لا تنطفئ.
ومن يقرأه، يخرج وهو يحمل خريطةً لأسماء أصبحت جزءاً من جغرافيا الروح، ودليلاً على أن العراق ما زالا ينجب سيراً لا يُطفأ نورها مهما اشتدت العواصف.