حين يتكلم الحبر بملامح أنثى
هالة بن عامر
الجسدُ ليس ظلًّا على الورق، بل كائنٌ يكتب نفسه حين تعجز اللغة عن الوصف.
هو الذاكرة التي تسكن أطراف الأصابع، والنبض الذي يتحوّل إلى جملة، والوجع الذي ينصهر في معنى.
حين تكتب المرأة، لا تمسك القلم فقط، بل تمسك ذاتها. تكتب بعطرها، بصمتها، بارتجاف قلبها حين يلمسها الحرف.
كأن كل كلمة تخرج من ضلعٍ عاش طويلاً في الصمت، يبحث عن فسحة ضوء.
في نصوص غادة السمان، لا يتحول الجسد إلى إغراء، بل إلى نافذةٍ تُطلّ منها الروح.
تكتب كما تتنفس، فتجعل من الحركة والهمسة والأنين لغةً تتجاوز الحواس.
وفي حروف مي زيادة، يتجلى الجسد كضوءٍ يسكن الوردة قبل تفتحها، كصوتٍ داخليٍّ يتلو صلاة الجمال،
فالجسد عندها ليس جسدًا، بل ذاكرةٌ تتوهّج، وتفكيرٌ يلمع من بين الكلمات.
الكتابة الأنثوية لا تعري الجسد، بل تعري اللغة من خجلها.
هي لا تكتب لتُغري، بل لتُحرر. لا لتُظهر اللحم، بل لتُظهر الفكرة التي وُلدت منه.
إنها كتابةٌ تشبه السير على خيطٍ من ضوء بين الوجدان والفكر؛ توازنٌ بين ما يُقال وما يُترك ليُفهم.
في كل نصٍّ أنثوي، ينبض قلب يقود الجسد إلى الرقص على الورق.
تكتب المرأة بحركة يدها، بنبض شريانها، بنظرةٍ عابرة إلى ماضيها الذي لا يهدأ.
من الحرمان تولد الكلمة، ومن الحب تتفتح الصورة، ومن الخذلان يشتعل الحبر.
الأنوثة هنا ليست قيدًا، بل موسيقى خفية تملأ النص بالحياة.
فدوى طوقان تجعل من العين مرآة للحنين، ومن اليدين جسراً نحو البعيد،
وغادة السمان تجعل من الجسد لحنًا للحرية،
أما مي زيادة فترسمه نورًا يسيل على الورق كندى الصباح،
كأنها تقول: أنا أكتب كي أتنفس، لا كي أُرى.
وحين يقرأ القارئ هذا الحبر الأنثوي، يشعر أن الجسد ليس جسد امرأة، بل جسد الكون حين يتكلّم.
يشعر أن الكلمات ليست صدى عاطفةٍ عابرة،
بل امتدادٌ لوعيٍ يرفض أن يُختزل في شكلٍ أو جنس.
الجسد في الكتابة النسوية هو نهرٌ من المعنى،
يمتزج فيه الفكر بالعاطفة، والوجدان بالفلسفة، دون أن يضيع أحدهما في الآخر.
هو لغةٌ تتلمّس طريقها بالعاطفة، وفكرٌ يتجسد دون خوف.
إنها كتابةٌ لا تخجل من الجسد، لأنها تعرف أن الجسد ليس عارًا، بل وسيلة للفهم، أداةٌ للوعي، جسدٌ يُفكّر كما تُفكّر الروح.
وحين تكتب المرأة بجسدها، فهي لا تبوح بضعفها بل بقوتها على خلق الحياة من الكلمة،
تجعل الحرف رحمًا جديدًا يولد فيه الوعي، وتصبح الورقة امتدادًا لجلدها الأبيض الممتلئ بالأسرار.
في النهاية، الجسد في النص الأنثوي ليس فتنةً، بل فلسفةٌ تتنفس.
ليس عريًا، بل انكشافُ المعنى حين تخلع اللغة أقنعتها.
إنه الوميض الذي يجعل الكلمة حيّة،
والسرّ الذي يمنح الأدب روحه الأنثوية: شفافة، غامضة، ومفعمة بالحياة.