وكانت بغداد أُمي
علي السوداني
وقد دخلتها ليلاً مهيباً رائقاً عند وشل العشرة الأوائل من تشرين بعد الغيبة الأكبر .
قلت لأخي أبي فراس الذي صار أبانا مبكراً ، طر بي فوراً صوب خزنتين ثمينتين تنام فيهما نصف الذاكرة ، ففعل ذلك ضاحكاً هائماً مؤجلاً كومة دمعٍ عزيز .
بباب سينما بابل وقفت خاشعاً صامتاً تالفاً كأنني عمود إضاءة صدمته شاحنة سكرانة فانحنى ظهره حتى كاد يبوس الأرض.. لم تكن بابل هي تلك التي انزرعت قدامها كلَّ عقد السبعينيات الجميل ومفتتح الثمانين كما كانت من قبل وقد غلقت الأبواب وقالت أين أنت أيها الغريب الشريد المطعون وجهاً وظهرا .
سمعتُ أو شبّه لي صوت شادية بشريط نحن لا نزرع الشوك الذي عرض على سبورة الدار منتصف السبعينات وهي تنوح وتتناوح :
لا لينا أهالي يابه يسألوا علينه
ولا قلب حنيّن واحد باللي حوالينه
وبنبكي في قلوبنه يابه ولا دمعة في عنينا يابه
الخزنة الثانية كانت مقهى حسن عجمي لكنها مثل أخيتها مغلقة تتعالج من علل الزمن .
رميت عيني بعمق المقهى النائمة فرأيت مما يرى أهل اللحظة المكثفة اللزجة ، وجه النادل الكبير أبي داوود وتحت يمينه القوية كومة استكانات تلبط مثل أسماك بلعت الصنارة لكنها حمتنا من برد وجوع وهي تشعر بالرضا عن مصيرها المقتول .
ثمة أحمد السمين الذي يسوق كرشه ويدور حولنا عصراً ساعة الحساب .
كائن آخر مصنوع وجهه من طمأنينة لا يعرف منبعها .
صانع الناركيلة الذي يشبه ذئباً يخيم عند عتبة الهزيمة .
قلت للفتى النبيل سيف ، دعنا نحوم حول علي بن الجهم فأرتل وأجوّد عليك :
عيونُ المَها بينَ الرصافةِ وَالجِسرِ
جلَبنَ الهوى مِن حيث أَدري ولا أَدري
لم أعثر على الهوى الذي كان في خاطري .
سمير الخالدي مات ودكانه أنغام التراث صار مكتوباً باهتاً في دفتر الخسارات .. الكثير من القطط تتلمظ ناطرة مقدم الدرويش التائه .. عشوائية ضخمة ضربت سوق مكة وصدرت الغبار نحو الجامعة المستنصرية .
فتشتُ عن مشطٍ خشبي أنزل معه تحت رقبة الجسر ، وعندما عجزت سمعت وقع خطى ثقيلات جعلتني قبلة .
كان معروف عبد الغني الرصافي قد هبط من على دكته العالية . باسني من المنطقة التي سماها مظفر النواب غفوة نهر وقال :
لا أمشاط خشب الليلة أيها الدرويش . إذهب ونم وقد يرزقك الله برؤيا فيها كلّ ما تشتهي .
ذهبت ونمت فجاء الحلم طائراً وطشَّ على رأسي الثقيل كلَّ المفقودات المبهجات المذهلات .