الجراح المفتوحة
ثامر محمود مراد
في زوايا كثيرة من هذا العالم، تختفي ملفات معقدة خلف الضجيج الإعلامي اليومي، وكأنها ليست سوى هوامش لا تستحق أن تُذكر، بينما في حقيقتها تُمثّل جراحاً مفتوحة تنزف منذ عقود. هناك صراعات بين شعوب وأعراق، نزاعات بين طوائف وأديان، خلافات بين أبناء الوطن الواحد الذين يجمعهم الدم والتاريخ ويفرّقهم الانتماء الضيق. المؤلم في المشهد أنّ الضحية واحدة: الإنسان. إنسان فقد حقه في الأمن، وحقه في الأمل، وحقه في أن يعيش حياة طبيعية بعيداً عن صوت الرصاص ودخان الكراهية.
لقد شهد التاريخ الحديث أمثلة كثيرة على هذه الانقسامات. كل مرة يتكرر المشهد ذاته: جماعات تُحاصرها الأحقاد، وأمم تُستنزف في صراعات عبثية، بينما العالم يقف موقف المتفرّج أو المتاجر بالقضية. وما بين الحروب والهدنات المؤقتة، يظل المواطن العادي تائهاً في البحث عن بصيص أمل يُنقذه من دوامة الدماء.
ورغم قتامة الصورة، يبقى الأمل حاضراً، فهناك دوماً أصوات الحكمة التي تحاول أن تفرض منطقها على منطق العنف. هنا تبرز قيمة اللقاءات التاريخية بين القيادات الروحية أو السياسية التي تمتلك الكلمة الفصل. الناس ينتظرون بصبر أن يتصافح الكبار، أن يعلنوا بجرأة أنّ زمن الخصومة قد انتهى، وأنّ ساعة التعايش قد حانت. فسلام حقيقي قد يولد من جلسة هادئة بين عقلين حكيمين، كما يولد من إرادة صادقة قادرة على تحويل الدماء إلى جسور، والجراح إلى فرص جديدة للحياة.
إنّ صناعة السلام ليست رفاهية ولا ترفاً سياسياً، بل هي حاجة مصيرية للبشرية جمعاء. فبدون السلام، يظلّ الإنسان سجين الخوف، والاقتصاد أسير الانهيار، والثقافة مرهونة بالتمزق. وحين تشتعل الحروب في مكان ما، فإنّ ألسنتها تمتد لتطال الجميع، في زمن أصبحت فيه الحدود مجرد خطوط على الورق. ولهذا، فإنّ مسؤولية إطفاء نيران النزاع تقع على عاتق القادة أصحاب الرؤية، الذين يملكون الجرأة لتغليب المصلحة الإنسانية على الحسابات الضيقة.
السلام لا يولد بالصدفة، بل يُصنع كما يُصنع الفن أو يُبنى العمران. هو قرار شجاع يُتخذ في لحظة إدراك أنّ الدماء لا تجلب نصراً، وأنّ الأرض لا تزدهر فوق الخراب، وأنّ الإنسان أغلى من كل شعارات الكراهية. وصانعو السلام الحقيقيون هم الذين ينظرون إلى المستقبل بعين الأجيال القادمة، لا بعين اللحظة الراهنة المليئة بالمكاسب الزائفة.
من هنا، يبقى الرجاء معقوداً على أن تتحقق اللقاءات المنتظرة، أن يمدّ أصحاب الكلمة المسموعة أيديهم ليوقفوا دوامة الجنون، أن يقولوا للعالم: كفى. وعندها فقط، يمكن أن يتحقق ما يحلم به البسطاء؛ أن يناموا دون خوف، أن يستيقظوا على صباح جديد تُشرق فيه شمس الحياة لا دخان المعارك.
فالعالم، مهما تباينت أعراقه وطوائفه، يحتاج إلى صوتين عاقلين يعلنان بوضوح أنّ الإنسانية أكبر من الطائفية، وأنّ الانتماء إلى البشر أوسع من أي انتماء آخر. وعندما تتحقق هذه اللحظة، لن تهدأ العواصف فقط، بل ستزهر الأرض من جديد، وستثبت البشرية أنّها قادرة على التعافي مهما اشتدّت عليها المحن.