دروس الماضي وإستحقاقات الحاضر
إيران وضرورة إعادة التموّضع
سلمان الجميلي
لا يمكن لأي مراقب أن ينكر أن اختلال التوازن وغياب القوة الفاعلة في أي منطقة يولّد نتائج كارثية، تتجاوز حدود الجغرافيا المباشرة لتطال الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء. ولعلّ ما جرى في المنطقة عقب احتلال العراق عام 2003 يقدم نموذجاً صارخاً لهذه الحقيقة، حيث أدركت معظم دول الإقليم، التي ساندت ذلك الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر، حجم الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته حين أسهمت في إخراج العراق من معادلة التوازن الإقليمي.
لقد كان غياب العراق، بما يمثله من ثقل جيوسياسي وبشري واقتصادي وعسكري، نقطة تحوّل خطيرة في معادلات القوة في الشرق الأوسط. وقد استغلت إيران هذا الفراغ بوضوح، فهلّلت لسقوط النظام العراقي، ووجدت أمامها مشهداً إقليمياً منكشفاً، يمتد من مضيق هرمز في الخليج إلى باب المندب جنوب البحر الأحمر حتى سواحل المتوسط شمالاً.
لكن، إيران نفسها بدأت تدرك حجم الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها، عندما تجاهلت الجغرافيا السياسية لدول المنطقة، وتجاوزت حدود الدولة الوطنية نحو التمدد في الجغرافيا المذهبية والطائفية، معتمدة على أذرع عسكرية وسياسية أضرّت بالاستقرار الإقليمي، وربما أضرت بمصالح إيران نفسها على المدى البعيد.
سجل حافل
اليوم، وتحت ضغط التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية المتفاقمة، تبدو طهران وكأنها تلتقط إشارات التغيير، وتتحرك بلغة جديدة، وخطاب أكثر انفتاحاً، في محاولة لإعادة تموضعها ضمن بيئة إقليمية جديدة تفرضها المتغيرات الدولية والداخلية.
وفي المقابل، فإن دول المنطقة، وفي مقدمتها السعودية وقطر، كانت من أوائل من أدرك خطورة اختلال التوازن الذي سينتج عن تداعيات الحرب الباردة بين إيران وإسرائيل، فاختارت هذه الدول مواقف مسؤولة ومتزنة، وحرصت على ألا تكون طرفاً في تعميق هذا الخلل الذي انعكس، وما زال ينعكس، سلباً على أمن المنطقة واستقرارها.
ورغم سجل إيران الحافل بالتدخلات والسياسات العدائية تجاه جوارها العربي، إلا أن دول الخليج والمنطقة عموماً لا تزال تتحلى بالعقلانية السياسية، وتسعى إلى بناء مقاربات واقعية قائمة على الحوار والانفتاح، شريطة أن تتخلى إيران عن سياسات تصدير الثورة، وأن توقف دعمها للأذرع العسكرية والسياسية العابرة للحدود.إيران، التي تعيش حالياً في ظل هدنة حرب مرشحة للانهيار في أي لحظة، مطالبة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بأن تلتقط هذه الرسائل بجدية، وأن تقدم على مراجعة شاملة وجذرية لسياساتها في المنطقة، قائمة على احترام سيادة الدول، والتخلي عن مشاريع الهيمنة والتمدد، والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز العلاقات الثقافية والدينية والتجارية، كمدخل لبناء الثقة مع محيطها العربي.إن بناء منظومة أمنية إقليمية شاملة، تحمي الجميع، وتحافظ على التوازن الضروري لاستقرار الشرق الأوسط، لم يعد خياراً ترفياً، بل بات ضرورة وجودية في مواجهة التحديات المشتركة؛ سواء تلك القادمة من الكيان الصهيوني، الذي يواصل محاولاته فرض الهيمنة على المنطقة، أو من التهديدات الدولية والإقليمية الأخرى.ولا شك أن إيران الدولة، الجارة المسلمة ذات الامتداد التاريخي والحضاري والديني، أفضل بكثير من إيران الطائفية، التي تسعى لفرض نفوذها عبر التدخل في شؤون الآخرين. إن التحول من مشروع نفوذ قائم على الأذرع والسلاح إلى مشروع شراكة قائم على احترام السيادة والمصالح المتبادلة، هو الطريق الوحيد لضمان استقرار دائم وشامل للمنطقة .
□ وزير التخطيط الأسبق