بول ومبدعو العراق الموتى
فيصل عبدالحسن
بول لمن لم يسمع به أخْطَبوط، أطلقوا عليه أسم “الأخْطَبوط العرَّاف”، وقد أستخدم في مباراة كأس العالم عام 2010، التي دارت رحاها في جنوب أفريقيا لكرة القدم، لتخمين من الفائز في كل مباراة، وقد جاءت تخميناته كلها صحيحة، مما جعل الجميع يحترمه، بل أن بعضهم أخذ يقدسه ويعتبره لا يتحرك إلا بحكمة!!
ووضعوا فيه ثقتهم لمعرفة نتائج اليانصيب، ونتائج ألعاب دوري الأبطال الأوربي لكرة القدم، ومعرفة نتائج المضاربات في البورصة، وقد أثرى مالكه السيد كريس ديفس، وربح بسبب إشاراته المعرفية ملايين اليوروات، وقد اصطاده ديفس في موطنه في ساحل بحر الشمال البريطاني، فأصل بول بهذا الكشف بريطاني مائة في المائة من دون أي لبس، ومن دون الحاجة للكشف عليه لمعرفة أصله بواسطة الحامض ألأميني، كما متعارف على ذلك غربيا.
الجنسية الإسبانية
وأول تكريم حصل عليه بول” الأخطبوط العرَّاف”، كان من مدينة كاربالينو الإسبانية التي يحب سكانها كرة القدم، فمنحه “مونتيز” عمدتها الجنسية الإسبانية، لأنه شرفهم بالتنبؤ بفوز إسبانيا في المباراة الأخيرة مع هولندا في المونديال الأخير، وقد تجشم هذا العمدة كل أعباء السفر، وسافر إلى المدينة الألمانية أوبرهاوزن، ليسلم بول”الأخْطبوط العرَّاف” الجنسية الإسبانية، وما أن مات بول حتى طالبت هذه المدينة التي منحته الجنسية الإسبانية الحكومة الإسبانية بمطالبة الحكومة الألمانية بتسليمها جثة الأخْطَبوط المتوفي لدفنه في إسبانيا مادام أنه يحمل الجنسية الإسبانية، فهو إسباني، ومن العار تركه يدفن في بلد آخر!! والصراع كان في أوجه بين الدولتين بعد أيام من وفاته حول جثة الإخطبوط الميت.
لقد أصرت ألمانيا على عدم تسليم جثة بول، وأنها كانت تخطط لوضعها في متحف الأكواريوم (أفضل متاحف ألمانيا وأشهرها) أو في متحف كرة القدم بمدينة كولون إحدى المدن الألمانية الكبيرة، ولكن المفاجأة التي قللت من حدة النزاع بين الدولتين، هو ما نشرته الصحافة الأوربية من أن بول أختار قبل موته طريقة دفن جثته، فقد كان اختياره قبل وفاته على حرق جثته والاحتفاظ برماده في مزهرية للورد، وهذا بالطبع ما لم يخطر على بال أحد من المتصارعين حول عائدية جثته.
لم يكتف صاحبه” كريس ديفس” بالربح من وراء بول حيا، فقد حقق ملايين أخرى من الدولارات الأمريكية بعد أن وافق على ظهور صورة بول على الطبعات الجديدة من أسطوانات نجم الغناء الأمريكي الراحل الفيس بريسلي، وأغرب من ذلك ما خططت له شركة أسطوانات أخرى لإنتاج مجموعة أغان ستسميها من” مختارات بول!!” وقد أصدرت جنوب أفريقيا وعدد من الدول الإسكندنافية عددا من الطوابع التي تحمل صورة بول، وهو يختار الفائز في المباراة النهائية لكرة القدم في مونديال عام 2010 .
موتى العراق
وأنا اقرأ سيرة بول، الأخطبوط العرَّاف تبادر إلى ذهني مصير عشرات الأدباء والكتاب والفنانين والعلماء العراقيين الذين ماتوا ودفنوا في منافيهم من مبدعي العراق الكبار أمثال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي والشاعر الكبير مصطفى جمال الدين، والشاعر الكبير بلند الحيدري الذي دفن في لندن والروائي فؤاد التكرلي الذي دفن في العاصمة الأردنية، ومهدي محمد علي صاحب كتاب “ البصرة جنة البستان “ الذي دفن في حلب السورية، والمعمارية الكبيرة زها حديد التي دفنت في لندن، وغائب طعمة فرمان الذي دفن في موسكو، والفنان الكبير خليل شوقي الذي دفن في لاهاي بهولندا والشاعرة الكبيرة نازك الملائكة التي دفنت في القاهرة، والممثل الكبير راسم الجميلي الذي دفن في دمشق والمسرحي الكبير عوني كرومي الذي دفن في ألمانيا.. هؤلاء وعشرات غيرهم الذين ماتوا بالمنافي ودفنوا هناك، أراهم يشيرون إلى العراق بسبباتهم، لم يسأل عنهم أحد المسؤولين عن الثقافة في عراق اليوم، أو تتبنى الدولة تكريمهم بإعادة دفنهم في وطنهم، ولم تشر إليهم بطابع تذكاري أو حتى ببرنامج تلفزي يعيد للأجيال الجديدة من العراقيين الذين لا يعرفون عنهم شيئاً، أي بؤس أخلاقي وثقافي هذا، وأي نكران لجهود هؤلاء الذين أثروا حياتنا فكراً وفناً وشعرا جميلا، وصنعوا ذاكرتنا الجماعية بما مثلوه من أرث ثقافي وفني عراقي غزير.. الرحمة لأرواحهم، فهم في قلوب الأحياء مهما بعدت قبورهم عن مرأى عيوننا.