الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬13‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ ‬‭(‬13‭)‬

حسن‭ ‬النواب

 

كانت‭ ‬أمسية‭ ‬مثيرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬ضيفين‭ ‬مُعتبرين‭ ‬حضرا‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة؛‭ ‬إذْ‭ ‬ذهب‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بنفسه‭ ‬لاصطحابهما‭ ‬من‭ ‬داريهما،‭ ‬وهما‭ ‬الشاعر‭ ‬رشدي‭ ‬العامل‭ ‬والقاص‭ ‬فهد‭ ‬الأسدي‭. ‬توافد‭ ‬الشعراء‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬وجواد‭ ‬الحطاب‭ ‬وهادي‭ ‬ياسين‭ ‬وحميد‭ ‬قاسم‭ ‬وإبراهيم‭ ‬البهرزي‭ ‬وأحمد‭ ‬المانعي‭ ‬وأمين‭ ‬جياد‭ ‬وحشد‭ ‬من‭ ‬الصعاليك‭ ‬بوصفهم‭ ‬أصدقاء‭ ‬الشاعر‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬الذي‭ ‬يمتلك‭ ‬الغرفة‭ ‬مع‭ ‬منذر‭ ‬عبد‭ ‬الحر‭. ‬كان‭ ‬حضور‭ ‬رشدي‭ ‬العامل‭ ‬وفهد‭ ‬الاسدي‭ ‬غير‭ ‬المتوقع‭ ‬قد‭ ‬شكَّل‭ ‬صدمة‭ ‬لإدارة‭ ‬المهرجان‭ ‬ودخلوا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انذار‭ ‬المهرجان؛‭ ‬ولذا‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬توافدوا‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة‭ ‬قد‭ ‬أنيط‭ ‬به‭ ‬دور‭ ‬المخبر‭ ‬عمَّا‭ ‬سيحدث‭ ‬بتلك‭ ‬الأمسية؛‭ ‬أدرك‭ ‬الجميع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬صمته‭ ‬وعينيه‭ ‬القلقتين‭ ‬طوال‭ ‬الجلسة‭. ‬بدأت‭ ‬السهرة‭ ‬بقراءات‭ ‬حرَّة‭ ‬كما‭ ‬اقترح‭ ‬العامل،‭ ‬وافتتحها‭ ‬صوته‭ ‬الرقيق‭ ‬بقصيدة‭ ‬غنائية‭ ‬عذبة؛‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش‭ ‬يلثم‭ ‬وجه‭ ‬العامل‭ ‬بين‭ ‬سطر‭ ‬وآخر‭ ‬وهو‭ ‬بمنتهى‭ ‬الثمالة،‭ ‬وقرأ‭ ‬الماجدي‭ ‬قصيدة‭ ‬متوهجة‭ ‬ثم‭ ‬تبعهُ‭ ‬الحطَّاب‭ ‬بقصيدة‭ ‬حفلت‭ ‬بالمفارقات،‭ ‬ونثر‭ ‬هادي‭ ‬ياسين‭ ‬تبرَ‭ ‬شعره‭ ‬على‭ ‬المكان،‭ ‬وأنشد‭ ‬المانعي‭ ‬قصيدة‭ ‬قصيرة‭ ‬غامضة،‭ ‬لما‭ ‬وصل‭ ‬الدور‭ ‬الى‭ ‬كزار؛‭ ‬سألهم‭ ‬ماذا‭ ‬تريدون؟‭ ‬أجابهُ‭ ‬أحدهم‭ ‬نسمع‭ ‬شعرك؛‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬يبوس‭ ‬خدِّ‭ ‬العامل‭ ‬وقال‭: ‬

‭- ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة؟‭ ‬

كانت‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬كؤوس‭ ‬العرق‭ ‬تركض‭ ‬إلى‭ ‬شفاه‭ ‬الجميع‭ ‬باستثناء‭ ‬مخبر‭ ‬الغرفة؛‭ ‬وجاء‭ ‬الدور‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬وقرأ‭ ‬قصائد‭ ‬قصيرة،‭ ‬لكنَّ‭ ‬ارتباكه‭ ‬الشديد‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الكوكبة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬أضاع‭ ‬من‭ ‬حنجرته‭ ‬طريقة‭ ‬إنشاد‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬فلم‭ ‬تترك‭ ‬أثراً‭ ‬عن‭ ‬الحاضرين؛‭ ‬ولما‭ ‬وصل‭ ‬الدور‭ ‬إلى‭ ‬البهرزي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬دشداشة‭ ‬بيضاء،‭ ‬نهض‭ ‬بثمالة‭ ‬واضحة‭ ‬ليقف‭ ‬فوق‭ ‬السرير‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬هوى؛‭ ‬فتلقفتهُ‭ ‬يد‭ ‬العامل‭ ‬قبل‭ ‬سقوطه‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وطبع‭ ‬قبلة‭ ‬على‭ ‬جبينه‭. ‬عاد‭ ‬البهرزي‭ ‬ليقف‭ ‬فوق‭ ‬السرير‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬والقصيدة‭ ‬بيده،‭ ‬أطلق‭ ‬زفرة‭ ‬طويلة‭ ‬وأنشد‭ ‬قصيدته‭ ‬بلغةٍ‭ ‬كأنها‭ ‬نيازك‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬معتمة؛‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬طويلة‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬البهرزي‭ ‬من‭ ‬مواصلة‭ ‬الإنشاد‭ ‬بها؛‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬ويطيح‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الانفعال‭ ‬والوجع‭ ‬الذي‭ ‬يعصف‭ ‬بصدره؛‭ ‬وقد‭ ‬خذلته‭ ‬الشكيمة‭ ‬فهوى‭ ‬مثل‭ ‬شمعة‭ ‬منصهرة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وكاد‭ ‬يشجُّ‭ ‬رأسه‭ ‬لولا‭ ‬الأكف‭ ‬التي‭ ‬تلقفتهُ‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬تحل‭ ‬المصيبة‭. ‬لكنَّ‭ ‬ما‭ ‬قرأهُ‭ ‬ترك‭ ‬هزَّة‭ ‬شديدة‭ ‬لدى‭ ‬الجميع؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬الشعراء‭ ‬لم‭ ‬يألفوا‭ ‬من‭ ‬البهرزي‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الفني‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬قبل؛‭ ‬إذْ‭ ‬اعتادوا‭ ‬على‭ ‬قصائده‭ ‬القصار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينشرها‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الجمهورية‭. ‬كان‭ ‬كزار‭ ‬يرتدي‭ ‬بنطلوناً‭ ‬بالياً‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬فقره‭ ‬المدقع؛‭ ‬وقميصاً‭ ‬مُترباً‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬تجمع‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬عرق‭ ‬جسده‭ ‬وغبار‭ ‬الطرقات؛‭ ‬وبرغم‭ ‬هيأته‭ ‬الرثَّة‭ ‬لكنَّه‭ ‬كان‭ ‬بعيون‭ ‬الحاضرين‭ ‬مثل‭ ‬شمعة‭ ‬حنون‭ ‬تنشر‭ ‬نورها‭ ‬الملائكي‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الغرفة‭. ‬استمرت‭ ‬الجلسة‭ ‬إلى‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الجنون‭ ‬والشعر‭ ‬والخمر،‭ ‬حتى‭ ‬أخذ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بيد‭ ‬رشدي‭ ‬العامل‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬الحارثية‭ ‬وعاد‭ ‬عند‭ ‬مطلع‭ ‬الفجر‭ ‬ليجد‭ ‬كزار‭ ‬جالساً‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬الفندق‭ ‬يدخن‭ ‬بشراهة‭ ‬ويتطلع‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬مهموماً‭ ‬كأنَّهُ‭ ‬يـتأمل‭ ‬هبوط‭ ‬جرعة‭ ‬خمر‭ ‬من‭ ‬السماء؛‭ ‬وإذا‭ ‬بصديق‭ ‬الغجري‭ ‬ينتشل‭ ‬بطحة‭ ‬عرق‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬معطفه‭ ‬ليضعها‭ ‬بيد‭ ‬كزار‭ ‬الذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عبَّ‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬جوفه‭ ‬بجرعة‭ ‬طويلة؛‭ ‬ثم‭ ‬نبس‭:‬

‭- ‬أنقذتني‭ ‬يا‭ ‬هذا‭.‬

غمرهُ‭ ‬الحبور‭ ‬حين‭ ‬سمع‭ ‬ذلك‭ ‬وطبع‭ ‬قبلة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬كزار‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬وقد‭ ‬نهض‭ ‬عن‭ ‬الرصيف‭ ‬بنشاط‭ ‬ملحوظ‭ ‬ونبس‭:‬

‭- ‬الآن؛‭ ‬بوسعي‭ ‬رؤية‭ ‬بغداد‭ ‬بوضوح‭. ‬

وانطلق‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬نؤاس‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬مصابيح‭ ‬حانة‭ ‬الحمراء‭ ‬مازالت‭ ‬مشتعلة؛‭ ‬فهرع‭ ‬نحوها‭ ‬وهو‭ ‬يحثُّ‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭:‬

‭- ‬أعشق‭ ‬حانة‭ ‬الحمراء؛‭ ‬هيَّا‭ ‬عسى‭ ‬أنْ‭ ‬أجد‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يطفئ‭ ‬ظمأي‭.‬

‭ ‬ضحك‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬وقال‭:‬

‭- ‬تبقى‭ ‬شيوعيَّاً‭.‬

‭ ‬ابتسم‭ ‬كزار‭ ‬وأومأ‭ ‬بيده‭ ‬النحيلة‭:‬

‭- ‬تعال؛‭ ‬تعال؛‭ ‬من‭ ‬أنت‭ ‬رجاءً؟

‭ ‬أجاب‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭:‬

‭- ‬أنا‭ ‬مغرمٌ‭ ‬بك‭ ‬وحق‭ ‬الحسين‭.‬

‭ ‬طغتْ‭ ‬غبطة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬كزار‭ ‬الذابل؛‭ ‬وأمسك‭ ‬بموضع‭ ‬قلبه‭ ‬وهو‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬قائلاً‭:‬

‭- ‬سأموت‭ ‬من‭ ‬الفرح‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬أردف‭:‬

‭- ‬كأني‭ ‬أطول‭ ‬قامة‭ ‬من‭ ‬بناية‭ ‬فندق‭ ‬الشيراتون‭.‬

‭ ‬وغفى‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭. ‬‮«‬يتبع‭…‬

 


مشاهدات 136
الكاتب حسن‭ ‬النواب
أضيف 2024/05/06 - 5:02 PM
آخر تحديث 2024/05/19 - 11:01 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 213 الشهر 7449 الكلي 9345487
الوقت الآن
الأحد 2024/5/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير