صلاح عمر العلي .. تراويح المراجعة وإمتحانات اليقين (4)
عبد الحسين شعبان
مؤتمر بيروت وتأسيس الوفاق
انعقد المؤتمر الأول للمعارضة العراقية في آذار / مارس 1991، بدعم غير مباشر سعودي – سوري، وبمباركة إيرانية، وذلك بعد انتهاء الحرب وإعلان انسحاب العراق من الكويت. وشهدت أجواء المؤتمر اندلاع الانتفاضة في جنوب العراق وتزامنًا معها، وفي كردستان كذلك. لكن المؤتمر كان عبارة عن خطابات ومزاودات، ولم يتم التوصّل فيه إلى برنامج عملي وهيئة قيادية لتمثيله، وانتهى مثلما بدأ بخلافات تعمّقت مع مرور الأيام.
حضر صلاح عمر العلي وإياد علّاوي واسماعيل القادري وعدد من رفاقهم المؤتمر باسم حركة الوفاق، كما حضر المؤتمر سعد صالح جبر وحزبه المجلس العراقي الحر، ومن أبرز الشخصيات التي حضرت معه صادق العطية وشفيق قزاز، وهو شقيق وزير الداخلية سعيد قزاز، الذي أعدمته ثورة 14 تموز / يوليو 1958، وقد وصلوا بطائرة سعودية خاصة من الرياض إلى دمشق، كما كان الحضور المميّز هو لحزب البعث (الجناح السوري)، والحركة الكردية ممثلة بجناحيها، والحركة الإسلامية بجناحيها، والحزب الشيوعي وشخصيات مختلفة.
وكان يُفترض انعقاد المؤتمر الثاني في السعودية، لكن ثمة تغييرات طرأت على ساحة المعارضة، فلم تمضِ سوى فترة قصيرة، إلّا والقوى السياسية بدأت بالانقسام، فالمجلس العراقي الحر انقسم إلى جناحين، أحدهما كان على رأسه سعد صالح جبر، الذي سبق له أن أصدر جريدة «التيار»، والثاني كان بقيادة نائبه صادق العطيّة، وانقسمت حركة الوفاق كذلك إلى مجموعتين، ضمّت الأولى صلاح عمر العلي، والثانية إياد علّاوي، وأسس سامي عزارة المعجون حركة الإصلاح، وتأسست الحركة الملكية الدستورية برئاسة الشريف علي بن الحسين، وهذه كلّها كيانات تم تشكيلها على عجل، وحدثت خلافات داخل اتحاد الديمقراطيين، الذي ضم شخصيات ثقافية واجتماعية، مثل بلند الحيدري وموفق فتوحي ومحمد الظاهر وفاروق رضاعة وعزيز عليّان وآخرين، كما حدثت خلافات داخل حركة المنبر الشيوعي، وعاد الرفيق ماجد عبد الرضا إلى بغداد على مسؤوليته الخاصة، كما عاد عدد من الشيوعيين الآخرين المحسوبين على ملاك القيادة الرسمية قبل وبعد الحرب على العراق.
كما أن لجنة العمل المشترك، التي مقرّها دمشق، هي الأخرى انقسمت إلى جناحين، ففرعها اللندني بغالبيته اختار عقد مؤتمر مستقل برهانه على العامل الدولي، أما فرعها الأساسي في دمشق، فقد مضى على توجهه الإقليمي الأول.
وأخذت العناصر الأساسية في لجنة العمل المشترك – لندن، تعمل على عقد المؤتمر الثاني الخاص بالمعارضة. وقاد هذا التوجّه أحمد الجلبي، عضو لجنة العمل في لندن، الذي ظهر لأول مرّة في ساحة المعارضة، حين وقّع على بيان ضمّ 28 شخصية، بُعيد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، وذلك في العام 1989، إضافة إلى السيد محمد بحر العلوم وتحسين معلّة وإياد علّاوي وهاني الفكيكي وليث كبّة والحزبين الكرديين وبعض الإسلاميين. وتكلّلت هذه الجهود بعقد مؤتمر للمعارضة في فيينا في حزيران / يونيو 1992، قاطعته بعض القوى. الأمر الذي أدى إلى تعميق الانقسامات في الخريطة السياسية العراقية المعارضة، خصوصًا بدخول الولايات المتحدة بثقلها، وتعويل بعض الأطراف عليها، بل وضع بيضها في سلّتها للإطاحة بالنظام.
في القاهرة
بعد انتهاء الحرب على العراق، دعتنا منظمة التضامن الأفرو – آسيوي (الأبسو)، لحضور اجتماع للاستماع إلى وجهة نظر عراقية بخصوص ما حصل في العراق ومآلاته واحتمالات تطوّر الموقف والتعاطي معه عربيًا وإقليميًا. وقد حضر من القوميين العرب أديب الجادر وأحمد الحبوبي، ومن البعثيين صلاح عمر العلي وإياد علاوي، ومن الشيوعيين مهدي الحافظ وعبد الحسين شعبان (وحينها كنّا نمثّل حركة المنبر الشيوعي)، إضافة إلى وجود نوري عبد الرزاق في قيادة منظمة التضامن الأفرو – آسيوي، وهو مؤسس في حركة المنبر، وقد أدار الاجتماع السفير مراد غالب، رئيس منظمة التضامن.
وخلال وجودنا في القاهرة (أيار / مايو 1991)، أجرينا العديد من الاتصالات مع قوى وشخصيات يسارية وناصرية، وخصوصًا من حزب التجمّع خالد محي الدين ورفعت السعيد و فريدة النقاش وحسين عبد الرازق، إضافة إلى محمد فايق وأحمد حمروش وصلاح الدين حافظ وفاروق أبو عيسى (السودان) رئيس اتحاد المحامين العرب، كما أعطينا العديد من الحوارات الصحافية واحتفظ بمقابلة معي في جريدة الأهالي وهي بعنوان «أمريكا تسعى لإنهاك صدّام وإنهاك المعارضة أيضًا»، في 1 أيار / مايو 1991، والمنشورة في كتاب «عبد الحسين شعبان - الصوت والصدى: حوارات ومقابلات في السياسة والثقافة»، إعداد وتقديم كاظم الموسوي، الدار العربية للعلوم، 2010.
وقد تعزّزت علاقتي كثيرًا بصلاح خلال وجودنا في القاهرة، وقضينا أكثر من أمسية في خان الخليلي وسيّدنا الحسين، ودعانا نوري عبد الرزاق مع المجموعة لزيارة الشخصية الوطنية والقانونية المرموقة عبد اللطيف الشواف، الوزير السابق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وكنت قد تعرّفت عليه بالقاهرة في نهاية العام 1970 وبداية العام 1971، حين كنت أحضر مؤتمرًا في القاهرة بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بنحو أربعة أشهر، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك في أكثر من مناسبة، قدّمت فيه بحثًا بعنوان «عبد الناصر: وحركة التحرّر الوطني». واستمعنا إلى آرائه بخصوص الوضع القائم في العراق ومستقبل الحكم، وما على القوى الوطنية القيام به لحماية الاستقلال الوطني والانتقال التدرّجي نحو الحكم التداولي للسلطة وسيادة القانون والشرعية الدستورية بدلًا من الشرعية الثورية.
وقد حضر على هامش اجتماع القاهرة شكري صالح زكي الوزير القومي، لعلاقته بحركة الوفاق عند تأسيسها، وساهم في التحضير لاجتماعاتها الأولى. وقد أخبرني أنه هو الذي اقترح اسم الوفاق الوطني، لكنه لم يحضر اجتماع منظمة التضامن الأفرو – أسيوي. وأتذكّر أنّ اللقاء كان وديًّا بين أحمد الحبوبي وصلاح عمر العلي، وظلّ حبل الودّ قائمًا بينهما.
الوفاق
كان تأسيس حركة الوفاق التي ضمّت بعثيين سابقين قد تمّت على مراحل، وعبر اجتماعات في لندن والرياض، حيث كان قد وصل إليها عدد من الضباط اللّاجئين بعد حرب الخليج الثانية، وإثر الانتفاضة الآذارية في العام 1991، وشملت اللقاءات الأولى صلاح عمر العلي وإياد علاوي وصلاح الشيخلي وأرشد توفيق وشكري صالح زكي وتحسين معلّة وفارس حسين وتوفيق الياسري وضرغام كاظم وعلي الزبيدي وسليم شاكر الإمامي واسماعيل القادري، على الرغم من أن الأخير كان على ملاك قيادة البعث السورية، إلّا أنه بعد انتقاله إلى لندن، انضمّ إلى حركة الوفاق قيد التأسيس، وتدريجيًا انقطعت علاقته بالتنظيم السوري، كما كان عدد من المحسوبين على ملاك البعث سابقًا، على اتصال بحركة الوفاق.
وأصدرت الحركة جريدة باسم «بغداد»، دعاني صلاح وإياد للكتابة فيها على نحو أسبوعي، فاعتذرت، لأن قرائي عربًا من بلدان عربية مختلفة وغير معنيين في الكثير من الأحيان بشؤون معارضة الحكم في العراق، التي تخصص لها صحف المعارضة غالبية مقالاتها وأخبارها، علمًا بأن الكتابة في الصحف العربية تختلف عن الكتابة في صحف المعارضة، وغالبًا ما تتجاوز هذه الأخيرة، مثل الصحف الرسمية والأيديولوجية، النظرة الموضوعية بهدف إظهار مساوئ النظام وعيوبه من جانب المعارضات ومثالب وثغرات المعارضات من جانب الأنظمة، بل اتهامات متبادلة بين الطرفين، فضلًا عن ضعف المهنية والمعايير المعتمدة في الصحافة المعروفة بشكل عام.
وكنت حينها أكتب في «جريدة الحياة»، وتنشر لي «جريدة القدس العربي» بعض المقالات أيضًا، إضافة إلى الصحف والمجلات العربية والفلسطينية الأخرى، وباستثناء «صحيفة المنبر الشيوعي»، التي كنت رئيسًا لتحريرها في الثمانينيات، لم أكتب في صحف المعارضة للسبب ذاته، علمًا بأنه في الغالب الأعم كان المعارضون يكنّون أنفسهم بأسماء أو ألقاب مستعارة لإخفاء هويّاتهم، مثل «أبو فلان» أو يختارون اسمًا تعويضيًا لأسمائهم، ولكني حرصت على الكتابة باسمي، بما يُعطي للقارئ الصدقية والاطمئنان لجهة القضية المراد معالجتها، على الرغم مما جلبه هذا الأمر لي ولعائلتي من أذى، ولاسيّما إثر صدور كتابي «النزاع العراقي – الإيراني»، في مطلع العام 1981، فضلًا عن موقفي من الحرب العراقية – الإيرانية.
بدأت صحيفة «بغداد» تنتشر في أواسط المعارضة العراقية، وأخذت الكثير من الأقلام اليسارية تكتب فيها باستمرار، بل تعاقد البعض معها، وكان دور صلاح بارزًا فيها، فقد اختار أن يكون هو المسؤول عن الإعلام، وموجهًا له، لما تمتّع به من معرفة وعلاقات وإمكانيات في استقطاب شخصيات للكتابة في الجريدة، وقد كان ينشر لي ما ألقيه من محاضرات أو ما يصدر عني، أو يُعيد نشر ما أكتبه في بعض الصحف العربية، لاسيّما القضايا التي تتعلّق بالعراق. كان الترقّب شديدًا بعد قمع الانتفاضة، وأتذكّر أنه وصلتني بعض الأخبار بخصوص ذهاب مام جلال الطالباني إلى بغداد للقاء الرئيس صدام حسين، وحينها كنت ألقي محاضرة في ديوان الكوفة «الكوفة كاليري» في لندن، حيث كانت بعنوان «المهجّرون والقانون الدولي»، جئت فيها على مسألة الجنسية وقوانينها، وموضوع التبعية والمعاناة المزدوجة، لاسيّما بعد قرار مجلس قيادة الثورة رقم 666، الصادر في 7 أيار / مايو 1980، لإسقاط الجنسية عن العراقيين غير الموالين للحزب والثورة، ومن التبعية الإيرانية، حتى وإن ولدوا هم وآباؤهم وأجدادهم في العراق، وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطنًا سواه. وبعد الانتهاء من محاضرتي، كان صلاح عمر العلي حاضرًا وإياد علاوي وجمهور غفير كذلك، وتبادلنا الأخبار والمعلومات حول بدء مفاوضات الحركة الكردية مع النظام العراقي، وتأكّد كلّ منّا من صحّة مصدر معلوماته، وبعد يوم شاع الخبر وأحدث انقسامًا جديدًا في صفوف المعارضة.
اجتهادات خاصة
وتوسّعت حركة الوفاق بانضمام بعض من الذين تركوا العراق إليها من البعثيين، لكن الخلافات أخذت تدبّ في أوساطها بسبب الاجتهادات الخاصة بالتعاطي مع العامل الدولي، وقاد ذلك إلى انقسام شديد وحاد بين الطرفين، حيث شهدت نزاعات قانونية حول ملكية الجريدة، ومستلزمات الطباعة الخاصة بها، والتي أصبحت من حصة إياد علاوي، في حين أصدر صلاح عمر العلي جريدة باسم «الوفاق»، وحاولت المملكة العربية السعودية رأب الصدع، ولكن دون جدوى، بسبب تعاظم الاتهامات المتبادلة بين الطرفين وحساسية بعض القضايا.
وقد قصّ عليّ صلاح عمر العلي أسباب الخلاف بالتفصيل، مثلما استمعت إلى ذلك من إياد علاوي، وظلّت علاقتي قويّة بالطرفين، واضعًا مسافة واحدة من قوى المعارضة جميعها، خصوصًا بعد أن استقلت من المؤتمر الوطني العراقي، الذي كنت أمينًا للسر فيه، واتّخذت من الجانب الحقوقي والموقف النقدي، الأساس الذي سرت عليه، وهو ما سيأتي ذكره.
يتبع في الحلقة الخامسة بعنوان: «نشاطات العام 1992».