قبس من إجتهاد القضاء المصري
السند القانوني والدستوري لدور الرقابة الشعبية في حماية المال العام
سالم روضان الموسوي
قبل أيام كتبت عن دور الرقابة الشعبية واهميتها في حماية الديمقراطية ونشر في اكثر من موقع، وعلى اثر ذلك اتصل احد الأساتذة الافاضل من المختصين في العلوم المحاسبية وتدريسي في احدى الجامعات ومهتم بالجانب القانوني، وطلب مني ان احدد له النصوص القانونية التي تدل على ان الرقابة الشعبية لها سند من القانون او الدستور، وحاولت ان اجد النص الصريح لكن لم اوفق الا اني بادرت الى بيان النصوص الدستورية العامة التي تتوفر على المبادئ الدستورية وهي اعلى قاعدة قانونية في سلم الهرم التشريعي، ولأنه أستاذ حصيف وعالم في اختصاصه، رد على القول بقول اخر بان القضاء لا يسمح لاي مواطن ان يمارس دوره في الرقابة عبر الطعن في العقود التي تبرمها الدولة مع الأشخاص، مع ان قطاع واسع من الشعب يرى بانها تنطوي على شبهات فساد كبرى، وعلى وجه الخصوص عقود الاستثمار التي في باطنها بيع لأصول الدولة او عقود بيع قطع الأراضي الى المسؤولين في الدرجات العليا وفي امكان مميزة وببدل رمزي، بل فيه اعتداء على التخطيط الحضري للمدن ومنها العاصمة بغداد حتى أصبحت معدومة الاوكسجين بسبب انحسار المناطق المشجرة وحلت محله الكتل الكونكريتية، فضلاً عن كونها وسيلة لغسيل الأموال؟
وفي لحظة قوله هذا لم املك جواباً لأني عند تدريس طلبة القانون اوكد لهم على وجوب توفر المصلحة في إقامة الدعوى، وكنت اتغنى بما استقر عليه القضاء بان يكون الطرف في الدعوى ذو مصلحة مباشرة، وعلى وفق احكام المادة (6) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل التي جاء فيها ((يشترط في الدعوى ان يكون المدعى به مصلحة معلومة وحالة وممكنة ومحققة ومع ذلك فالمصلحة المحتملة تكفي ان كان هناك ما يدعو إلى التخوف من إلحاق الضرر بذوي الشأن ويجوز كذلك الادعاء بحق مؤجل على ان يراعى الأجل عند الحكم به وفي هذه الحالة يتحمل المدعي مصاريف الدعوى)
مرافعات مدنية
ويقصد بالمصلحة بشكل عام الفائدة العملية التي تعود على رافع الدعوى لان وجود دعوى دون أن تكون لرافعها مصلحة في ذلك لا يمكن تصوره، وهذا ما استقر عليه قضاء محكمة التمييز الاتحادية في عدة قرارات أصدرتها ومنها القرار العدد 251/الهيئة الموسعة المدنية/2021 في 13/7/2021 وجاء فيه الاتي (أن من شروط قبول الدعوى ان تكون للمدعي مصلحة في أقامتها) عملاً بالمادة (6) من قانون المرافعات المدنية، سيما وان المادة (2) منه عرفت الدعوى بانها (طلب شخص حقه من آخر أمام القضاء) كذلك على مستوى قضاء المحكمة الاتحادية العليا ومنها ما جاء في قرارها العدد 9/اتحادية/2020 في 9/5/2021 وجاء فيه (يشترط في الدعوى المباشرة التي يقيمها الأشخاص الطبيعية (الأفراد) أو الأشخاص المعنوية الخاصة أمام المحكمة الاتحادية العليا توافر المصلحة الخاصة, وهي المصلحة المعلومة والحالة والممكنة والمحققة, وان يقدم المدعي دليلا على ان ضرراً واقعاً قد لحق بة نتيجة النص التشريعي المطعون علية , وان تترتب له فائدة فعلية نتيجة الحكم بعدم دستورية النص المذكور أو الغائه)، وامام هذا الجدار القضائي والفقهي والقانوني يتعذر على الرقابة الشعبية ان تمارس دورها في الطعن بالعقود التي تبرمها الإدارة ويلحظ فيها شبهات فساد؟
لكن عند مطالعة كتاب الدكتور محمد حسن قاسم أستاذ القانون المدني والموسوم ( كتابات في القانون المدني منشورات مكتبة الحلبي الحقوقية ـ طبعة بيروت عام 2024) وجدت له تعليق رائع جداً على قرار محكمة القضاء الإداري في مصر الذي ايدته المحكمة الإدارية العليا المصرية بقرارها العدد 33693 وموحداتها سنة قضائية 57 في 1/8/2013، وفي القرار مبدأ مهم جداً ويدلني على السند القانوني لممارسة الرقابة الشعبية ودورها في الطعن بالعقود التي تنطوي على شبهات فساد،
حيث ان وقائع الدعوى تتمثل، بقيام احدى الجهات الرسمية المصرية بخصخصة شركة عمر افندي ذات التاريخ التليد عند أبناء مصر، وهي من الشركات العامة التي تعود ملكيتها الى الحكومة بعد تأميمها في زمن جمال عبدالناصر، ومنحها الى مستثمر خليجي بمبالغ زهيدة وتضمن عقد الاستثمار بيع أصول الشركة بما فيها الأراضي وتضم عشرات الفروع في عموم مصر،
الا ان احد المواطنين ممن وجد ان العقد فيه شبهة فساد كبرى وان الجهات الحكومية لم تنهض بواجبها لمنع هذ الصفقة الفاسدة، بادر الى إقامة دعوى امام محكمة القضاء الإداري في مصر بالعدد رقم 11492 لسنة 65 قضائية في 7/5/2011 ، ويذكر ان القضاء الإداري له صلاحية النظر بالعقود الإدارية وهي العقود التي تكون الدولة فيها طرفاً، وطلب الحكم ببطلان عقد الاستثمار بسبب الفساد الذي انطوى عليه، وبعد تحقيقات مطولة والاسهاب المنتج والمحمود في تسبيب حكمها قضت ببطلان الصفقة،
ومن ثم طعن في القرار أعلاه امام المحكمة الإدارية العليا، وكان من اهم أسباب الطعن بان المدعى لا يملك مصلحة في إقامة الدعوى، لأنه لم يكن مالكاً او مساهماً فيها، وانما الشركة برمتها تعود الى الدولة، وعند الرجوع الى القواعد الإجرائية في القانون المصري يكون لهذا الدفع اثراً منتجاً، حيث يتقارب القانون العراقي والمصري بهذا الاتجاه وعلى وفق ما نوهت عنه في أعلاه،
لكن عندما يصادف الموضوع قاضياً واعياً ومدركاً لمهمته التي أوكلت اليه بالفصل في النزاع بين الخصوم، وادراكه لأهمية المال العام، وان دور القضاء لا يقف عند التطبيق الحرفي للنصوص الجامدة، فان الحلول لمكافحة جميع الازمات تكون في متناول اليد، اما اذا كان العكس فان الفاسدين بلا ادنى شك لهم القدرة على الهروب من الرقابة القضائية وحتى الشعبية،
والمهم في الامر والذي يمثل الجواب على سؤال الدكتور المختص بالعلوم المحاسبية ، فان قرار الحكم أعلاه اعتبر ان المدعي وان كان مواطناً عادياً لا يملك صفة مباشرة تؤهله ليكون مدعيا في الدعوى بموجب قانون الإجراءات المدنية المصري والذي يقابله في العراق قانون المرافعات المدنية، الا انها وجدت ان هذا المواطن تتوفر له الصفة والمصلحة في الدعوى لان عليه واجب دستوري بحماية الملكية العامة (المال العام) حيث ان الإعلان الدستوري لعام 2011 النافذ في حينه في مصر جاء فيه نص يلزم المواطن بحماية الملكية العامة في المادة (6) من ذلك الإعلان الدستوري وعلى وفق الاتي (للملكية العامة حرمة وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن وفقا للقانون) وتطبيق نص الوجوب بالنسبة لاي مواطن يكون من خلال اللجوء الى القضاء لحماية الملكية العامة من أي اعتداء.
حكم قضائي
ومثل هذا النص متوفر في دستور العراق لعام 2005 حيث جاء في الفقرة (أولا) من المادة (27) الاتي (للأموال العامة حُرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن)، وعند مطابقة حيثيات الحكم القضائي الصادر في مصر مع حالات الفساد في بلدنا التي يحتج عليها قطاع واسع من الشعب، ويعبر عن رأيه في رفض الفساد، فهو تشخيص للوقائع الفاسدة وليس فقط تلويح بالعموميات، وهذا هو مفهوم الرقابة الشعبية، فان مصدرها وسندها القانوني هو النص الدستوري،
ويؤكد قرار الحكم المصري على ذلك بما جاء في حيثياته حيث جاء فيه (أن ما خلص إليه الحكم من توافر صفة رافع الدعوى جاء متفقاً وصحيح حكم القانون على اعتبار أنه أقامها دفاعاً وذوداً عن الملكية العامة التي هي ملكية الشعب والتي يجب دستورياً على كل مواطن الذود عنها عند النيل منها، و بذلك فقد ألقى المشرع الدستوري على عاتق كل مواطن التزاماً بحماية الملكية العامة من أي اعتداء و الذود عنها ضد كل من يحاول العبث بها أو انتهاك حرمتها ، الأمر الذي من شأنه أن يجعل لكل مواطن صفة و مصلحة أكيدة في اللجوء للقضاء مطالباً بحماية الملكية العامة ، سواء بإقامة الدعوى ابتداء أو بالتدخل في دعوى مقامة بالفعل ، ومتى كانت الشركة محل النزاع من الأموال المملوكة للدولة ، فقد أصبح على كل مواطن ، بما في ذلك المدعي و الخصوم المتدخلين، واجب حمايتها بالمطالبة بالتحقق م مشروعية الإجراءات التي اتخذت للتصرف فيها و مدى صحة عقد بيع أسهمها ، و من ثم يتوافر للخصوم المتدخلين صفة و مصلحة في تأييد المدعي في طلباته و الانضمام إليه للقضاء بهذه الطلبات ، بما يجعل تدخلهم في الدعوى انضمامياً إلى جانب المدعي مقبولاً)
ومن خلال ما تقدم أرى بان الرقابة الشعبية تتوفر على السند القانوني لحماية المال العام بموجب المادة (27/أولا) من الدستور النافذ، وما نحن بحاجة اليه تفعيل العمل بتلك النصوص، حيث ان السبب الذي استندت اليه المحكمة المصرية قد اضاء الطريق لاي مطبق للقانون في الاستدلال بالنص الدستوري، عند التقاطع مع النص القانوني الاجرائي المتمثل بقانون المرافعات، لان حماية المال العام واجب ولابد من القيام بهذا الواجب من اجل الوقوف وبوجه موجة الفساد التي اكتسحت كل شيء بما فيها قيمنا الاجتماعية والثقافية والدينية.
مع التنويه الى ان هذا الاجتهاد الموفق من القضاء المصري لم يكن محل رضا الأجهزة المنتفعة من الفساد، بل تصدت له المؤسسات الدستورية ومنها اصدار قوانين سعت لتقويض هذا الحكم وعلى وفق ما ذكره الدكتور محمد حسن قاسم في كتابه المنوه عنه في الصفحة (384 وما يليها)
قاضٍ متقاعد