كلام أبيض
الذين يفهمون ما لم تقله
جليل وادي
سمعته منذ نعومة أظفاري، يتردد كثيرا على ألسنة الكبار، واستعنت به في مقاطع زمنية من حياتي قبل أن أصل الى الربع الأخيرة من عمر مر كالبرق في حياة راوغنا فيها أكداسا من الهموم وتلالا من المآسي، غلفها قلق على الحاضر والمستقبل، واستمتعنا بأوقات محدودة من فرح حذر، نستحضر في غالبه الأدعية بعد أول قهقهة، وكأن الفرح والسعادة كالهدوء الذي يسبق العاصفة.
ذكرني به مسؤول هيئة تحرير الشام الذي بات يحسده الكثيرون على اطلالته الهادئة وشكله الجذاب وكارزما تتيح له أن يكون قائدا لجماهير نست كل شيء لتعيش فرح غامر أشبه بالحلم، مبررا انتمائه للتنظيمات الارهابية بصغر سنه حينذاك ، أي أنه مغُرر به من الذين يجيدون غسل الأدمغة استنادا لمرجعيات دينية تتحمل وجوه عديدة للتفسير، وها هو الآن يشهد تحولا فكريا يكاد يكون مواكبا للقيم والأفكار المستنيرة التي تسود العالم المتحضر. لست معنيا فيما اذا كانت طروحات الرجل عمل تكتيكي، وهو ما نفاه الناطق باسم الادارة السياسية للهيئة ام حقا هو تحول جذري في منظومته الفكرية والثقافية، وهو ما نتمناه.
لكنه يبدو من بين ضحايا المقولة التي أريد الحديث عتها (الذي يكبرك بيوم يكبرك بسنة)، ويريدون بذلك الخبرة في حياتنا التي يشوبها عدم الاستقرار على الدوام، وقد يصلح ذلك للذين يغيبون عقولهم ويفكرون بعقول الآخرين، وهو نوع من التفكير غادرته غالبية المجتمعات المتنورة منذ ثلاثة قرون، لكنه مازال مهيمنا على شرائح واسعة من شبابنا، ومن المؤكد ان في التنظيمات الارهابية والاتجاهات المتطرفة وأمثالها من الاتجاهات المتشددة غير العنيفة دليلا واضحا على ذلك، فما عناصر تلك الشرائح الا من الصنف الذي حيّد عقله واستبدله بعقول آخرين يظنون بأنفسهم أوصياء على البشر، مع ان الكثير منهم اتخذ من الوصاية بابا للمصالح الشخصية او عنوانا للوجاهة او سبيلا للنفوذ، اما اولئك المؤمنون حقا، فاقتصرت وصايتهم على الدعوة بالتي هي أحسن، وللمرء حرية التصرف بحياته، لأنهم يدركون ان الدين هو علاقة بين الانسان وربه، ولن يكون أحد محل آخر في العقاب والثواب.
اتضح لي ان العمر ثلاثة أصناف: عمر بيولوجي وهذا الذي نعرفه وموثّق في أوراقنا الرسمية، والعلم يعرف نوع التفكير فيه ونموه، وما يمكن فهمه واستيعابه من العلوم، والآخر عمر الخبرة، ولا يرتبط هذا العمر كثيرا بالعمر البايولوجي، فقد يكتسب المرء الكثير من المهارات في مقتبله، وتتعاظم هذه المهارات بمرور السنين والأعمال التي يمارسها الانسان في حياته، والعمر الثالث هو عمر النضج، ولا أقصد به سن الرشد الرسمي، فسن الرشد لدينا يتأخر كثيرا من الناحية الواقعية، بل هو مستوى النضج الاجتماعي الذي يبلغه الانسان، وليس بالضرورة ان يرتبط عمر النضج الاجتماعي بالمستوى العلمي، فهناك الكثير من الأشخاص ممن بلغوا أعلى المراتب العلمية، بينما يعوزهم النضج الاجتماعي، وعلى العكس منهم توجد الكثير من الشخصيات التي لا حصيلة علمية لها، ومع ذلك تتمتع بنضج اجتماعي واضح، ومثلهم ممن بلغوا من العمر عتيا، لكنهم غير ناضجين اجتماعيا. وأظن ان عمر النضج الاجتماعي مرتبط بعمر الخبرة أكثر من ارتباطه بالعمر البايولوجي، ذلك ان عمر الخبرة هو حصيلة التفاعل الاجتماعي بحكم المهن التي مارسها الفرد ذات العلاقة بالمجتمع، أي ان الاختلاط بالناس يكسب المرء كثيرا من المهارات الاجتماعية، ولذلك قيل (ان المجالس مدارس)، ويُراد بذلك التفاعل الاجتماعي الذي تنتقل من خلاله ثقافات المجتمع. ومثل هؤلاء تسود الحكمة في سلوكهم، وأبعد ما يكونون عن الانفعالات، ويتمتعون ببعد النظر، وتلجأ اليهم الناس لحل مشكلاتها، ويُعدون من قادة الرأي المؤثرين، وفي المجتمعات القبلية غالبا ما يتولى الناضجون رئاسة القبيلة وادارة شؤونها فعليا او بطريقة غير مباشرة، ومن بين الأشخاص الذين يستشيرهم شيوخها . كم يعجبني الذين يفهمون ما لم تقله.
jwhj1963@yahoo.com