مرض عضال.. الدولة الوطنية العربية خلال أكثر من قرن
مزهر الخفاجي
يعتقد الكثيرون ان دراسة التاريخ، هي فقط دراسة الماضي، لكن هذا الكثير لا يعلم من ان التاريخ ليس هو الماضي، بل هو قاعدة الحاضر، كما أنّه انعكاس لكليهما على المستقبل، إذا ما عرفنا ان التاريخ هو دراسة مستفيضة للتطور البشري في جميع جوانبه أياً كانت أشكالها.
ونحنُ عندما نقدّم وندقق موضوع التاريخ نعتقد ان عدم تفعيل العقل في جميع حالات الفشل أو النجاح. انما هي جزءاً من العطالة العقلية، والا يصبح اهمال التاريخ يعني اهمال التجربة الانسانية في مسار تطورها الواعي. وفي ذات الوقت قبول التاريخ كما هو أو بتقديس مُنحاز الذي يمثل شرخاً في وعي وتجربة المجتمع وإذا ما عرفنا ان الشعوب قديمها وحديثها كانت قد اقتربت من الحضارة عندما استقر عمرانها البشري كما يقول « ابن خلدون».
ونجحت فيما بعد الاستقرار في اختيار نظام حكمها لتتطور انظمتها السياسية فيما بعد وهذا ما صدر عن الفيلسوف « اسبينوزا»، الذي يقول:
- ان ارساء قواعد النظام السياسي في أي مجتمع من المجتمعات إنما يلخص بامتياز حالة هذا المجتمع أو ذاك، وان اختيار الجماعة السياسية لنظام حكمها... يجعل من الشــــعب أو (الجماعة العمومية)، التي يطلق عليها بعد ذلك بعد تسمية (المواطنين). وهو الذي جعل الكثير من المفكرين المُعاصرين يؤكدون من ان السلطة ( الدولة) تتعلق بقانون الدولة، او قانون العامة. ونقصد به القانون الذي تُحدده القوة المنبثقة من العامة، أي ان معنى القوة هنا هي:
- ( ارادة الجماهير في التعبير عن طاليبها واختيار ممثليها).
وبذلك، والكلام للفيلسوف ( بينوزا)، ان ظهور المجتمعات المنظمة ينغي ان تكون مدعاة لوضع حد لادعاءات كل انسان في ان يكون حَكَماً على ذلك (الشخص / المواطن).
وحالة المواطنين سياسياً وتاريخياً تتنازعها فكرتين، فكرة ان يتصرف الانسان وفق قوانين الطبيعة، او أن يُفكر في مصلحته الشخصية في اختيار نظام حكمه وفي الحالتين، فإن المواطن او المواطنين في (الطبيعة والشخصية) مجبولين على تحقيق بعض المصالح وترك بعضها الآخر، بالأمل حيناً، وبالخشية (الخوف من صاحب السلطة) احياناً أخرى.
المهم، ان الذي يُحدد علاقة المواطن / الفرد والمواطن / الجماعة هو حالة الخوف، ونقصد مرة اخرى الخوف من السلطة / القوة، واخرى من السلطة / القانون... وان غياب الوعي في الاختيار والتواصل والتعاطي مع الحالتين، الدولة والسلطة .
يترتب على تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم او العلاقة بين الفرد وأخيه هذا الامر صار مبرراً لنشوء الدولة الوطنية العربية الحديثة في دولنا، فضلاً عن تفاعل مجتمعاتنا معها. وان بلداننا هذه تدرجت في اختيار مجموعاتها الحاكمة تاريخيا.
وقد توصلت الى بناء دولها او دويلاتها او اماراتها او اقطاعياتها، حتى وصل الامر وآل الى مفهوم الدولة ان يكون جزءاً من تشكلها التاريخي . وقد عُدّت الدولة الوطنية الحديثة اهم ما وصلت اليه البشرية من طرق لتنظيم الحياة الانسانيةىن (افلاطون الى جون لوك) ومن (ابن رشد حتى ابن خلدون).
هذا التطور في انظمة الحُكم استمر لقرون عدة حتى وصل الى ما نشهده اليوم، لتضم هذه الانظمة، أي الدول الناشئة تحت أجنحتها الافراد والأسر والعشائر والقبائل والحواظر الدينية وغيرها من التجمعات.
لهذا فليس عيباً ان نقول ان ظهور الدولة الوطنية الحديثة في منطقتنا العربية قد احتضنت كل هذا التنوع المجتمعي الريفي والقبلي والمناطقي والاثني في ظل عاملين حاسمين.
الاول، تجمعه المصالح الوطنية المشتركة(الحيز او جغرافية المكان) . والثاني، هوالمشتركات المجتمعية القبلية والاثنية، وهذان العاملان عُدا من القواعد السياسية لنشوء الدولة الوطنية. والغريب ان هناك عاملاً ثالثاً يمكن اضافته، وهو الذي يؤكد لنا ان الدولة العربية الحديثة يمكن ان تكون منتجاً خارجياً.
نظم سياسية
واقصد هنا بالتحديد، النظم السياسية المستحدثة بعد الحرب العالمية الاولى، حيث حاول المستعمر (بريطانيا- فرنسا- وايطاليا) تكريس فكرة دولة تصريف الاعمال، التي هي دولة تصريف برامج استعمارية.
وهي في الظاهر تبدوا وكانها من اجل تحقيق مصالح البلدان وشعوبها. لكنها في الباطن هي عملية شروع لتأسيس انظمة ( قبائلية، اقطاعية، وعوائلية)، كانت تسير في رُكب الاستعمار الحديث.
ان الدولة العربية الوطنية الحديثة، إنما كانت نتاجاً شاذاً او مصطنعاً إذا ما قورنت بمناطق اخرى في العالم بعد خروج المجتمعات العربية من استعماراً عثمانيا وانكليزيا وفرنسيا وغيرها من الاحتلالات.
التي جاءت بعد اجتماع ضابطين انكليزي وفرنسي، والتي اطلق عليها فيما بعد اتفاقية ( سايكس- بيكو) عام 1917... لم يتاح حينها للنخب السياسية العربية ولا للجماعات الوطنية العربية من أن تتبلور فكرة الدولة عندها وينضج عقدها الأجتماعي ، او ان تفكر في شكل ونوع النظام السياسي المطلوب.
وهكذا بدأت هذه الدول البدائية او المصطنعة تتبلور في ظل داعِمَين، خارجي استعماري وفي ظل نخب سياسية تعبر عن زبائنية سياسية كانت قريبة من المستعمر إن لم تكن متخادمة معه.فهي وإن تعاطت مع المحتل في برامجها السياسية ومع احتياجات مواطنيها، ولكنها حرصت في الباطن على الحفاظ على اقطاعياتها ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية، التي تجعلنا نقول ان هذه الدول قد مرّت بثلاث مراحل:
1- المرحلة الليبرالية: لقد بدأت هذه المرحلة مع نهاية الحرب العالمية الاولى ( 1914)... حيث حاولت الدول الاستعمارية ان تنشىء للعرب دول ذات انظمة سياسية تقتفي فيها اثر (المدنية- العلمانية)، التي بدأت مع الانظمة الملكية والاقطاعيات الثلاث (القبائلية- الدينية- وملاكي الاراضي)، حيث ان الاستعمار دفع العرب لهذه الاشكال من الانظمة حفاظاً على مصالح الاستعمار الاقتصادية والسياسية في هذه.
2- المرحلة الوطنية: انها شكل من اشكال الانظمة جاءت بعد ظهور النظام الجمهوري في مصر بعد ثورة اكتوبر عام 1952. وقد تعاطت الانظمة الجمهورية مع المتغيرات التي شهدها العالم وتحديداً مع تشكيل ووضوح صورة المعسكر الاشتراكي، التي بدت عازمة على الانحياز للثقافة الشعبوية، واعتمدت فيها على اليسار العربي وحركات التحرر الوطنية والقومية .. ولقد انتهت هذه الدولة الوطنية العربية مرتين، الاولى بعد وفاة الزعيم جمال
عبد الناصر عام 1970، ويمكن تحديد الموت الثاني لها باحتلال العراق عام 2003، فضلاً عن ما حصل في بعض الدول العربية، التي أجهز عليها بفوضى الربيع العربي، التي بدت ملامحها بشكل واضح عام 2011. فانتهت بذلك بواكير كل المراحل، اي كل المشاريع الوطنية والقومية في العالم العربي.
3- مرحلة الدولة الوطنية الاستهلاكية- الرأسمالية: لقد اخذت صور هذه الدول تتبلور كما اسلفنا بعد نهاية المشروع القومي العروبي الناصري وفشل اليسار في الحكم كما حصل في اليمن الجنوبي، فضلاً عن نهاية الحكم في الدولة العراقية عام 2003. ان نماذج هذه الدولة الريعية الاستهلاكية، حاولت فيها النخب السياسية ان تجمع بين شكلين من اشكال الانظمة السياسية المشوهة، ونقصد الجمع بين الديمقراطية (القائمة على تنافس احزاب وطنية تتنافس وفق نظام اغلبية تقود واقلية تعارض نظام الحكم ) ونظام ديمقراطي مكوناتي قائم على تضادات مفاهيمية غريبة (المكوناتية بدل المواطنية) والتوافقية بدل الأغلبية والطائفية بدل الوطنية الجامعة .. هذا الامر هو الذي فرط في أسس قيام الدولة الوطنية الديمقراطية، ونقصد بها أولاً اضاعة مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة وشيوع مفهوم المكوناتية الأثنية والطائفية وثانياً ان هذه الديمقراطية المشوهة احدثت شكلاً من اشكال التقاطع بين الديمقراطية التي توفر الحرية وتبسط منطق الحق في اختيار الكفاءة وصار السائد في هذه النظم قائم على ماتطرحهُ (الدولة الاستهلاكية الوطنية ) مملكة ، امارة ، دولة ، قائمة على الطاعة بدلاً من الشفافية وعلى تكريس مبدأ التوريث والتفريخ العوائلي الحزبي والذي سهل من نشوء دويلات عوائلية بأمتياز وزبائنية سياسية في بعضها الاخر قائم على استغلال الديمقراطية للوصول الى السلطة من قبل الاسلام السياسي او الجماعات الاسلاموية وبعض القوى السياسية الاخرى، وذلك من اجل تحقيق مشاريعها الايديولوجية والسياسية، فحرفت هذه المجاميع والتنظيمات الديمقراطية، وبدلاً من ان تؤول السلطة الى الشعب عبر مؤسساته صار الحكم للجماعة كما حصل بعد الربيع العربي في حكم (الجماعة) في مصر وتونس والمغرب .
نظام عوائلي
والغريب ان مشاريع الدولة الوطنية العربية الحديثة، يشبه اقتصاد مجتمعاتنا ودولنا العربية، فكان نظامها السياسي الملكي والإمارة والسلطنة نظاماً عوائلياً، كان قد اقتفى أثر الانظمة الملكية الغربية في عملية التداول السلمي للسلطة، وبهذا وقعت الدولة الوطنية المصطنعة في حبائل عدة منها، اولاً، الاحتلال ومصالح ممثليها من اوليغاركيات حاكمة، هذا الامر هو الذي ساهم في
بناء ديمقراطية مشوهة كونها كانت قد فُصِلَت على مقاس الاوليغاريكيات الثلاث ( شيوخ القبائل ورجال الدين وملاكي الاراضي الاقطاعيين).
فذهبت كل نتائجها الانتخابية بما يكرس مصالح النظام القديم، ورسخت حكماً عائليا او قبائليا او طبقيا واضحاً. حيث استغلت هذه الجهات غياب جاهزية هذه المجتمعات عن ممارسة حقها في الاختيار والتخلف المجتمعي بسبب سوء الاوضاع الاقتصادية والتعليمية، التي يعملون بشكل مقصود على جعلها مرتبطة بهم بشكل مباشر ليمرروا من خلالها مصالحهم التي تخدم الاقلية وندير ظهرها لمصالح الاغلبية الجماهيرية الواسعة التي تعاني الأمرين من حكم سياسي مشوه وإدارات حكومية فاشية، فضلا عن استمرار حالات الغش او التمظهر الكاذب في عملية التمثيل السياسي في مؤسساتها التشريعية (مجالس شعب، مجالس نواب، مجالس شورى).
هذا الامر ساهم في تثبيت الاقطاعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جسد الدولة بديلاً عن النظم العربية الوطنية، التي ظلت تتربع على سدة الحكم لعقود طويلة. فضلا عن غياب التمثيل الحقيقي في ادارات الدولة الوطنية العربية الحديثة.
ونقصد غياب الجماعة الوطنية والقوى الوطنية المحلية عن الاجهزة الادارية والسياسية، مما جعل هذه الدول والحكومات تفشل في تحقيق طموحات شعوبها وتلبية احتياجاتهم، مع غياب التخطيط لحركة نهوض عربي مجتمعي واضح ماعدا (فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر والزعيم عبد الكريم قاسم).وماتبعت ثوراتهما من عمليات تغيير في بُنية الدولة ومؤسساتها الحاكمة .
لقد ظلت الدولة الوطنية العربية عاجزة من ان تفي بوعودها لشعوبها، وقد وقعت خلال مئة عام في دائرة الفشل، واذا ما أخذنا نماذجاً من هذه الحكومات للتدليل على طبيعة الأداء العام الضعيف او الفاشل ففي فترة النظام الملكي في العراق و الذي امتد من 1921 حتى 1958.
لمدة سبعة وثلاثون عاما حكم العراق اكثر من 59 حكومة، وبحساب بسيط يظهر ان عدم الاستقرار واضحا على بنية الدولة بسبب الفترة الزمنية القصيرة التي حكمت فيها هذه الحكومات، التي لم تتجاوز السنة والنصف كمعدل لكل كابينة وزارية.
الامر الذي وضعنا امام اشكاليتين، الاولى، تتمثلت في استغلال الديمقراطية لتكريس النظام العوائلي الطبقي الواضح المعالم. ويكفي ان نشير الى رؤوساء الوزارات السابقين الذين تتابعوا على حكم العراق، وتدقيقاًً بسيطاً لرؤساء وزراء هذه الحكومات يظهر لنا توجهاتهم السياسية ومنهجهم في الحكم ،إذ ظل هؤلاء الوزراء الخمسة يتناوبون على رئاسة حكومات العراق كأقطاعيات سياسية، وإن اعُتمد في تشكل نظام الحكم على مايسمى بالأنتخابات المباشرة وغير المباشرة والتي كان يتحكم فيها (شيوخ العشائر ، رجال الدين ، تجار وملاكي اراضي)
اما الاشكالية الثانية، فهي عدم استقرار النظام السياسي الملكي في العراق ، الذي أتى نتيجة تنازع الممسكين بالسلطة السياسية من اجل مصالحهم والتخادم مع المستعمر بما يضمن بقاءهم في السلطة اطول فترة ممكنة.
وبالتالي ادى الى فشل المشاريع والخطط التنموية العادفة لتطوير كافة مناحي حياة المواطن العراقي على كافة المستويات الاقتصادية والمعاشية وغيرها، وبالمقابل أرتهنت الدولة العراقية بمعاهدات سياسية فتكبل الحكم الوطني وارتهن فيها مستقبل البلاد بيد المحتل البريطاني.
وكذلك استيلاء الشركات النفطية على كامل ثرواته، وايضا تفاقم وازدياد الظلم المجتمعي من خلال اطلاق اليد للاقطاعيين وملاكي الاراضي من شيوخ العشائر، مما ادى بهؤلاء الى ان يتحولوا ( الاقطاعيين وشيوخ القبائل) الى ملاكي اراضي يستعبدون ابناء عمومتهم.
وكان هذا الفعل ونقصد (الظلم الاجتماعي والاقتصادي) الذي كان يمارسهُ الاقطاعيون ضد الفلاحين ومارافقهُ من تدهور في توفر حالات العيش الكريم في قرى ادى الى تزايد الهجرة من الريف الى حواضر مدن العراق كبغداد والبصرة والموصل على شكل موجات بشرية كبيرة، التي كشفت.
عن فشل الحكومات في اقامة نظام حكم يحقق ما اطلق عليه بحكومات العدل النسبي، أو الحكومات النصف وطنية، تفاقم هذا الفشل وادى الى اصطدام هذه الحكومات مع الحركة الوطنية في العراق وقمع الجماعة الوطنية.
وعوداً على بدء ، يتضحُ لنا من ان انظمة الحكم في الدول العربية الوطنية الحديثة وتحديداً البلدان التي على رأس سلطاتها ملك او شيخ او امير. يمتلكون اعلى السلطات ولديهم صلاحيات لا تقارن بما هو موجود في بلاد الغرب.
والتي حصلوا عليها عن طريق الديمقراطية الشكلية ( الحكم الدستوري) ففي بعض الحالات يكون الملك او الشيخ او الامير هو حاكم اعلى مُطلق يعود اليه الشعب والحكومة في كل شيء في ادارة شؤون البلاد عموماً.
هذا الامر يبدو واضحاً بشكل جلي في نظام الحكم في المملكة الاردنية الهاشمية والمملكة السعودية والمملكة المغربية ودولة الكويت والامارات، إذ ان بيعة الملك او الامير هي لصاحب الكلمة العليا والاخيرة.
الكلمة العليا في كل الشؤون العامة والتمتع بالنفوذ الواسع والعريض ليتمكن بفعله من التأثير حتى على مسار المؤسسات، مما يشل من حركة التطور في تلك البلاد التي يحكمونها.
فضلاً عن الإساءة الى مفهوم التداول السلمي للسلطة، هذا الامر هو الذي تسبب في قتل مبدأ الديمقراطية الدستورية، الذي اقرته كل الانظمة الحديثة في العالم، ونقصد به نظام الفصل بين السلطات.
والغريب في الامر أن عدوى الاستبداد او الحكم المطلق قد انتقل تدريجياً الى منظومة الحكم في البلدان الجمهورية ، إذ اصبحت انظمة الحكم فيها تكاد تشبهُ الممالك ولكن بلباس جمهوري.
إذ يستمر رئيس الدولة بالحكم ولا تبديل له ما دام حيّاً يرزق. وقد بدا هذا السلوك واضحاً في مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان. هذا النوع من الانظمة، قد ترك آثاره السلبية على مفهوم الدولة الوطنية.
التي كان اغلبها يعتمد على الممارسات الديمقراطية الشكلية في اختيار انظمة الحكم فيها. وقد ترافق مع مرض الاستبداد او الفردانية في الحكم مظهراً من مظاهر الاقصاء للحركات الوطنية المحلية فلم تعطي هذه الجمهوريات الفرصة للجماعة الوطنية في ان يشاركوا في ادارة نظام الحكم.
مما يعزز الاستقرار السياسي والوطني في هذه الدول. وظل نظام الحكم الشمولي في الدولة الجمهورية الوطنية معرضاً الى تغيرات ادراماتيكية مؤامرة او انقلابات عسكرية، حيث تقوم هذه المؤسسات العسكرية في تلك البلدان الخاضعة لها بذلك بعد ان تصبح صيدا سهلا للمؤامرات الخارجية من خلال اجهزة مخابراتها.
لذلك عاشت البلدان العربية تجليات تطلق على نفسها ( الراديكالية الثورية) وذلك بعد ان لبست هذه الانقلابات والثورات لبوس ايديولوجيات الثورة (قومية ، يسارية ) ، فوقعت في لبسٍ مفاهيمي واختلط الامر بين الانقلاب والايدلوجيا والراديكالية.
في حين انها تمارس ازدواجية في اسلوب الحكم القائم على الاستبداد من اجل ان يتعايش مع مفهوم التوريث. هذا الامر يدعو المفارقة، التي جعلت الغرب يتهم هذه الانظمة بالاستبداد ويشهِّر بها على انها ديكتاتورية.
وذلك بحُجة غياب الانظمة الديمقراطية (حكم مدني ، تداول سلمي للسلطة ) وبالتالي حتى وصفها الغرب بأنها انظمة تهدد الامن والسلم المجتمعي وتغيب حقوق الانسان فيها، وغياب تداول السلطة فيها بشكل سلمي، فضلا عن غياب ادنى مظاهر الحرية والديمقراطية فيها ، حتى وصل الامر الى اتهام هذه الانظمة بانها تتعاون مع الارهاب.
كانت بشائر هذه الاتهامات والادعاءات قد بدأت تظهر في العام 2003 لتتداعى هذه النظم الواحدة تلو الاخرى الى ان وصل الامر الى ما يسمى الربيع العربي، التي نجح فيها الغرب في تفكيك هذه الانظمة الجمهورية وتحويل واقع دولها الى ( فوضى خلاقّة).
هذا المصطلح الذي استخدمته وزيرة خارجية الولايات المتحدة الامريكية ( كونزاليزا رايس) في وصف الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية مصر وتونس وليبيا والسودان.
والغريب في الامر ان النظم الجمهورية التي عُدت انظمتها آخر النُظم الوطنية الحديثة في الوطن العربي، قد اصابها هذا الخراب، في حين ظلت الانظمة العربية الملكية صامدة امام هذه التحولات والاحداث.
- لا ندري هل ان هذا الصمود يعود لتصالح مجتمعات هذه البلدان مع حكامها؟.
- ام ان البحبوحة الاقتصادية بسبب النفط التي يتمتعون بها هي السبب في هذا الاستقرار
السياسي الوطني؟.
- أم ان امريكا وبريطانيا والغرب بشكل عام قد وقفوا بالضد من انهيار هذه النظم الملكية؟.
مرة كي لا تتهدد مصالحها ومواردها من النفط والغاز الخليجي، التي يمكن ان تكون سبباً لمسارعتها بتقديم مساعدات سياسية واعلامية ناعمة والمساهمة في استقرارها خوفاً من انتقال الحكم الى الجماعة الوطنية . وتحديداً هنا نحن نتحدث عن فترة ( الربيع العربي).
- أو ان الموضوع تقف وراءه الصهيونية العالمية والقوى الاستعمارية الكبرى للخلاص من
الدول الجمهورية الوطنية؟.
هذه الدول التي نتحدث عنها هي التي شكلت فيما بعد جبهة الرفض العربي ( العراق وسوريا واليمن وليبيا)، التي كانت تهدد كيانات واشياء ثلاث هي:
- الكيان الصهيوني.
- دول النفط العربية.
- حلفاء امريكا في المنطقة.
واخيراً يحق لنا ان نتسائل ما هي اسباب فشل الانظمة العربية الجمهورية الحديثة والملكية :
1- ضعف برامج الحكومات العربية وفشل سلطاتها التنفيذية في التخطيط لنهظة بلدانها اذا اتسمت هذه الدولة ب
- غياب العدل في مجتمعاتها.
- ازدياد معدلات البطالة بين افراد المجتمع خصوصا الشباب.
- فشل برامج التنمية.
- انخفاض مستويات التعليم او التأخر في برامجها.
- اقتصادها الريعي وغياب التنوع في مواردها الاقتصادية. حيث صار الناس مقتنعون بوهم العدل في الدولة الوطنية الحديثة.
2- تفاقم ظاهرة الفساد في مؤسساتهم، التي من اسبابها:
غياب الخطط الستراتيجية في مجالات الاستثمار والبناء والتنمية رغم توفر الثروات. ويلاحظ غياب خطط التنمية الوطنية التي هي واحدة وان من اهم مرتكزات تطوير البنى التحتية وتوفير الخدمات اللازمة للمجتمع المحلي.
يضاف الى ذلك غياب او الوقوف بالضد من التوسع من اعطاء حقوق المواطنين من خلال تطبيق الضمان الاجتماعي، اسوة بالذي يحصل وهو من مكتسبات كل الأسر في معظم الدول الاسكندنافية كالسويد والدنمارك والنرويج.
٣-وفشل نظام الحكم في معظم الدول العربية الغنية منها في ايجاد نظام ضمان اجتماعي يساعد الفرد والعائلة على توفير مستوى دخل يحقق شروط العيش الكريم، من دون الخوف من المستقبل.
ناهيك عن الفروقات الطبقية الشاسعة بين افراد المجتمع في الدول الجمهورية مقارنة بالبلدان الخليجية، فضلاً عن عوامل التخلف والمضايقات السياسية وتدهور الاوضاع الاقتصادية بالحصول على لقمة العيش.
ادى ذلك الى هجرة الكفاءات العلمية العربية ونسبة عاليةمن الشباب العربي الى البلدان الاوربية والذي ساهم في خسارة بشرية واقتصادية لهذه البلدان من نوع اخر وهو ما عدتهُ منظمات اقتصادية وسياسية وحقوق انسان بمثابة اكبر دليل على فشل انظمة الحكم في الدول العربية الوطنية الحديثة.
٤- كما كان لظاهرة ارتفاع نسبة الفقر في البلدان العربية عدا الخليجية منها التي تراوحت بين السكان في اقل مستوى لها 10% من نسبة السكان عاملا مقلقا وتأكيداً لفشل هذه الحكومات والانظمة السياسية، التي عدتها التقارير الأممية كقنبلة موقوتة داخل المجتمع يمكن ان تنفجر في أية لحظة كما حدث في انتفاضة الربيع العربي عام 2011.
واذا اخذنا معدلات الفقر في مصر فهي 14 % وسوريا 18 % وتونس 14 % والمغرب 11 % والعراق 18%. ان هذه الارقام تشكل علامات للفشل الاقتصادي والعجز الكبير في معالجة مشاكل مجتمعاتها وبالاخص بين فئة الشباب.
الشباب الذي يبحث عن لقمة العيش في ظل ثورة تكنلوجية وقفزات اقتصادية وصلت في بعض المجتمعات الى البحث عن دولة الرفاهية، وثورة معلوماتية كبيرة فتحت اعين وعقول الشعوب العربية على آفاق المعرفة. ومقارنتها مع الغرب ليظهر ان بلداننا مازالت متخلفة في توفير العيش البسيط.
وتزامن هذا الامر في ظل نظم تعليمية متخلفة. وثورة في الاتصالات جعلت المجتمع ليس عالم بل العالم في غرفة، وصار لكل مواطن ان يطلع بسهولة على مستوى العيش والتعليم والحرية التي تتنعم بها المجتمعات الاوروبية في ظل دولة وطنية.
وبالمقابل تقارن مع ما موجود في البلدان العربية ذات الحكم الوطني التقليدي، التي تعاني من مرض عضال، وهي بين خيارين لا ثالث لهما، اما الاستمرار في الفشل تحت ضغط الممسكون بالسلطة والذين حولوا الديمقراطية الى زبانية سياسية تهدف الى خلق مفهوم دكتاتورية الديمقراطية او التفريط بالديمقراطية والحرية تحت شعار انها لاتصلح لمجتمعاتنا.
نحن امام خيارين اما ان يتكيف الشعب مع دولة فاشلة ويعيش على المسكنات والمخدارات او يستعد لحركة نهوض عربية تساهم في قيادتها جماعة وطنية تمثل النسغ الصاعد من الطبقة الوسطى، التي تعتمد التداول السلمي للسلطة.
وذلك وفق قوانين ديمقراطية ووطنية تحافظ على ما تبقى من هذه المجتمعات البائسة، وان تكوّن دولة وطنية مركزية قوية تستند الى عقد اجتماعي دستوري يساهم الجميع في تنشئته من خلال وعي مجتمعي ديمقراطي وطني.
ربما في هذه الحالة يمكننا ان نعيد للدولة الوطنية ماء وجهها.. الذي شوهته تجارب سياسية وانماط حكم آخرّت مجتمعاتها وزادت في تخلفها وتسطيح وعيها منذ اكثر من قرن.