الجـواهــري.. يَتهضّم ويَتشكـى من بغداد ومثقفين وسياسيين
رواء الجصاني
... وهذه عصماء أخرى من قصائد الجواهري الوجدانية، الثائرة على النفس والمجتمع، والمقاييس السائدة في البلاد، نُظمت خريف عام 1962 وتم نشرها ، كاملة، بعنوان: يا غريب الدار، ولأول مرة، في ديوان «بريد الغربة» الصادر في براغ، بدعم من اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي الذي ترأسها الشاعر العظيم فور تشكيلها بعد انقلاب شباط الدموي عام 1963... وقد جاء مطلعها جواهرياً كالعادة في ثورته الجامحة، مما جعل القصيد يقرأ من عنوانه:
من لِهَمٍّ لا يُجارى، ولآهاتٍ حَيارى
ولمطويٍّ على الجمرِ سِراراً وجِهارا...
مَنْ لناءٍ عاف أهلاً وصِحاباً، وديارا
تَخِذَ الغربة دارا إذ رأى الذلَّ إسارا
إذ رأى العيشَ مداراةَ زنيمٍ لا يُدارى
* وفي مختلف مقاطع القصيدة التي تجاوزت أبياتها المئة والعشرين، يفيض الجواهري متباهياً بمواقفه التنويرية، مبرزاً سمات وقيماً تبناها، ولم يخشَ ما يترتب عليها من أذى المعوزين والظلاميين، بل وراح يكررها في عديد كثير من شعره، إلا انه هنا شدد على الشموخ والاصرار، ولعله أراد بذلك مقدمة لما سيلي من مواقف ووقائع:
ياغريبَ الدار لم يُخْلِ من البهجةِ دارا...
تأخذ النشوةَ منه ثم تنساهُ السُكارى
يا أخا الفطرةِ مجبولا على الخيرِ انفطارا...
يا سَبوحاً عانق الموجةَ مَدّاً وآنحسارا
لم يُغازلْ ساحلاً منها ولا خافَ القرارا
يا دجيَّ العيشِ إن يَخْبُ دجى الناس ِ، أنارا...
* ثم يعود الشاعر ليبوح ما يظنهُ يروض النفس، لتجاوز “الهضيمة” التي يشعر بها وحتى من الأقربين، خاصة وهو صاحب المآثر والمنابر، محملاً الذات جزءاً مما يعاني منه، بعد أن اختار نهج الثورة والتنوير والتجديد، معيباً المهادنة والمساومة:
يا غريبَ الدارِ وجهاً ولساناً، واقتدارا...
لا تُشِعْ في النفسِ خُذلاناً وحَوِّلهُ انتصارا...
أنتَ شِئتَ البؤسَ نُعمى ورُبى الجنَّاتِ نارا
شئتَ كيما تمنحَ الثورةَ رُوحاً أنْ تثارا...
عبَّدوا دربَك نَهْجاً فتعمَّدْتَ العِثارا
وتصوَّرت الرجولاتِ على الضُرِّ اقتصارا...
يا غريبَ الدار مَنسياً وقد شعَّ ادِّكارا
ذنبهُ أنْ كان لا يُلقي على النفسِ سِتارا
إنَّه عاش ابتكارا ويعيشون اجترارا
* ولكي يعزز بالوقائع ما يشكو ويتهضم منه، وما يعيبه على أصحاب القرار وغيرهم، يبدأ الجواهري المباشرة في التصريح، غير مبالغ... فبعد كل عطائه الوطني والابداعي على مدى عقود، يعيش – وهو الرمز الوطني- قسوة الاغتراب ووحشة المغترب بكل صعوباته وأرقه، صاباً جام الغضب على بلاد لم يستطع أن يتملك فيها حتى “حويشة” بينما يتنعم الرائبون، والمنحنون.. ثم يعود الشاعر لينوّه إلى حكم التاريخ اللاحق، وعلى الآتي من الأحداث، بل ومتنبئاً بها... نقول متنبئاً، وقد صدق بما قال وأوحى، وذلك هو أمامنا، العراق وما عاشه من مآس ٍ حد التميّـز بالآلام:
يا غريبَ الدارِ لم تَكْفَلْ له الأوطانُ دارا
يا “لبغدادَ” من التاريخِ هزءاً واحتقارا
عندما يرفع عن ضيمٍ أنالتهُ السِتارا
حلأَّتْهُ ومَرَت للوغدِ أخلافاً غِزارا
واصطفت بُوماً وأجْلَتْ عن ضِفافَيها كَنارا...
يا لأجنادِ السفالاتِ انحطاطاً وانحدارا
وجدت فرصتَها في ضَيْعةِ القَوم الغَيارى
* ولكي يخفف من ذلك الغضب العارم، يروح الجواهري في الأبيات التالية حانقاً، محملاً زعامات ثقافية وسياسية، مسؤولية ما أحاق به من ظلم واجحاف... وهو يمثل هنا بالتأكيد نموذجاً لعشرات، بل لمئات من المبدعين والمناضلين وغيرهم، ممن اضطروا للاغتراب، أو اختيار المنفى اضطراراً... ثم يتطوع بعدها الشاعر ليوزع صفات ٍ يعتقدها بحق الذين تسببوا في تلك الأوضاع وما آلت إليه، بل وليُبقي من ميّسمه في جباههم وشماً “خالـداً” يعيرون به جيلاً بعد جيل:
يا غريبَ الدارِ يا من ضَرَبَ البِيدَ قِمارا...
ليس عاراً أنْ تَوَلِّي من مسفّينَ فِرارا
دَعْ مَباءاتٍ وأجلافاً وبيئينَ تِجارا
جافِهِمْ كالنَسرِ إذ يأنَفُ دِيداناً صِغارا
خلقةٌ صُبَّتْ على الفَجرةِ دعها والفِجارا
ونفوس جُبلت طينتُها خِزياً وعارا
خَلِّها يستلُّ منها الحقدُ صُلْباً وفَقارا...
أنت لا تقدر أن تزرعَ في العُور احورارا...
*وأخيراً، وإذ يحين “مسك” الختام والايجاز لكل ما سبق وأشير إليه من وقائع ورؤى، يكتب الجواهري “معاتباً” أصدقاء ظنهم، و”أدباء” و”مثقفين” أحبهم ولكنهم تجافوا، خوفاً أو تنصلاً... أو لأنهم “حيارى” حتى في أمورهم ذاتها، مما جعله يسعى حتى لأن يختلق الأعذار لهم عن موقفهم:
يا غريبَ الدارِ في قافلةٍ سارت وسارا
لمصيرٍ واحدٍ ثم تناست أين صارا
سامحِ القومَ انتصافاً واختلِق منك اعتذارا
علّهم مِثلَكَ في مُفتَرقِ الدربِ حَيارى
سِـرْ واياهم على دربِ المشقاتِ سِفارا
فاذا ما عاصفُ الدهرِ بكم ألوَى وجارا
فكن الأوثقَ عهداً وكُن الأوفى ذِمارا