الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تكنولوجيا التفصيخ

بواسطة azzaman

نهاية تاريخ العراق (7)

تكنولوجيا التفصيخ

منقذ داغر

 

«الأنترنيت هو أكبر تطبيق لحكم الفوضى anarchy  في التاريخ،حيث يتداول ملايين البشر في كل دقيقة كم هائل من المحتوى الرقمي دون أي سيطرة من أي قوانين وضعية» المدير التنفيذي لشركة كوكل

أوضحت فيما سبق الظروف التي كان يعيشها العراقيون حينما داهمهم زلزالَي الأحتلال والتكنولوجيا. لقد فُتحت بوابة(الحرية) على مصراعيها دون ضوابط أو قوانين لشعبٍ تعود على الضوابط والقوانين،ونشأ على ثقافة صلبة Tight Culture   التي تكره المجهول وتحب التراتبية والقائد القوي،وتخشى التغيير وليس لديها منطقة وسطى بين الأبيض والأسود،ودار الكفر والأيمان،والصح والخطأ،والجنة والنار. وحينما لا تجيد السباحة الا في المياه الضحلة أو البُرَك الصغيرة ثم يتم القاءك في عرض البحر فأنك أما تغرق،أو تشبع من مياه البحر وتعاني كثيراً لحين أجادتك السباحة. وكما ذُكر سابقاً، فلم تنحصر مشكلتنا بالخروج للبحر الواسع،بل أضافت الرياح والعواصف الناجمة عن التغير التكنولوجي الرقمي أو ما يسمى بالثورة التكنولوجية الرابعة صعوبات ومشاق أكبر جعلت العراقيين يتخبطون ويبلعون مزيداً من مياه البحر المالحة في رحلتهم للنجاة.

سلوك طبيعي

في زيارتهما الأولى للعراق في عام 2009 أندهش كل من الرئيس التنفيذي لكوكل  أريك شميدت Eric Schmidt  ومديرها جارد كوهين Jared Cohen من كثرة العراقيين الذين يمتلكون أجهزة موبايل متطورة،ولاحظوا أن العراقيين تواقين بشكل مبالغ به في أمتلاك التكنولوجيا. وهذا شعور وسلوك طبيعي لشعب فاته الكثير ويريد التعويض بشدة عما فاته. أن من لا يجيد السباحة يستخدم يديه وقدميه بشكل مبالغ فيه ولا يحتاجه فعلا ، مقارنةً بالمحترف، لخوفه من الغرق وعدم قدرته على ضبط أيقاع جسمه. وللتدليل على سرعة تعرض العراقيين للتكنولوجيا اليكم بعض الأمثلة. ففي الوقت الذي أحتاج فيه الأميركان 40 سنة ليصلوا الى نسبة 95 بالمئة من الشعب ممن يمتلكون أجهزة موبايل فأن العراقيين أحتاجوا الى ثلث هذه المدة فقط للوصول لذات النسبة. وبينما يمتلك 79بالمئة من البريطانيين،ونفس النسبة من اليابانيين،و82 بالمئة من الأميركان أجهزة هواتف ذكية حالياً،فأن النسبة تقفز بين العراقيين لتصل الى 87 بالمئة !! وفي الوقت الذي أنتظر فيه الأميركان 25 سنة (من 1990-2015) ليقفز معدل تغطية الأنترنيت لديهم من 5-87 بالمئة ،فأن العراقيين أحتاجوا الى 10 سنين فقط(من 2010-2020) ليبلغوا نفس المعد.  وفي حين أن نسبة من يمتلكون تلفزيونات مربوطة على الستلايت(أو الكابل) في أمريكا لا تصل الى 30 بالمئة ، فأن النسبة في العراق تصل الى 98 بالمئة! لقد أُلقي العراقيون في لجة محيط العولمة والعالم الأفتراضي فجأةً ودون أي مقدمات أو تهيئة علمية وتربوية ونفسية فضاعف ذلك من الآثار الأجتماعية للتكنولوجيا على المجتمع العراقي.

على الجانب المقابل فقد لاحظ مديرا شركة كوكل اللذان أستُدعيا للعراق لتقديم مشورة بخصوص أتمتة الحكومة العراقية وجعلها الكترونية،أن العقلية والممارسات الحكومية في العراق متخلفة جداً مقارنةً بشعبها الذي يستخدم التكنولوجيا الرقمية على نطاق واسع. وفي الوقت الذي سبقت فيه حكومات العالم المتطورة،أو رافقت، شعوبها كتفاً بكتف في مجال التطور التكنولوجي،فأن المواطن العراقي لا زال يحتاج الى معاملة «صحة صدور» تقتضي منه أياماً أو شهوراً،في حين يمكنه في نفس المدة السفر الى أمريكا أو الصين والعودة لبيته  قبل أن يستلم»صحة الصدور» الذي ينتظره !!! وفي الوقت الذي بات فيه العالم يتداول العملات الرقمية،ويستخدم فيه اجهزة الموبايل لدفع مشترياته،فأن كثيراً من العراقيين-بخاصة كبار السن- ما زالوا مضطرين لتكبد عناء الذهاب الى أحد منافذ «كي كارد» لاستلام رواتبهم. قبل سنتين أضطررت لرفع شكوى ضد شخص مدين لي في بلد عربي مجاور،فجرت محاكمته الكترونياً حيث كان القاضي جالساً في دولة وأنا في دولة أخرى والمتهم في دولة ثالثة وتم أصدار الحكم خلال 48 ساعة فقط. لكني،في المقابل، كنت مضطراً للجوء الى العشيرة لا القانون ولا القضاء لتحصيل ديني من مدين في العراق!! وإاذا أضفنا لهذا التخلف الحكومي،المشار له أعلاه، لمظاهر عدم الكفاءة والفساد وسواها من من معايير الفشل فلا غرو أن يفقد العراقي ثقته بالحكومة التي كما أسلفنا تمثل الجسر الرابط بين مكونات المجتمع المختلفة. وحين تتقطع الجسور تقل الأواصر ويزداد التقاطع ويتحول المجتمع الى عجلة عاطلة لا يستفاد منها الا «تفصيخ».

ازدواج عقلية

 أن «أزدواج الشخصية» الذي يعتقد كثير من العراقيين-ولستُ منهم-أننا جميعاً نعاني منه،ماهو في الواقع الا «أزدواج عقلية» يعاني منه كثيرون بسبب أستخدامهم المكثف واليومي للتكنولوجيا الرقمية من جهة،والثقافة «الأمّيّة» من جهة أخرى. وهنا لا أقصد بالثقافة الأمية الا القول بأن ثقافتنا الأجتماعية لم تعد مناسبة لعالمنا وأنها بحاجة لأعادة ضبط مصنع. أليست مفارقة حين ترى رجالاً يجتمعون في مضيف وكلٍ منهم يحمل موبايل آخر موديل،ويأتي للمضيف بسيارة كل ما فيها الكتروني ثم يحتكمون لقانون عشائري عمره آلاف السنين؟!! أليس غريباً أن يهتم الآباء بتزويج أبنائهم من سني أو شيعي حصراً،أكثر مما يهتمون بتعليم أبنائهم الفرق بين (السوفتوير والهاردوير)؟ أنها مفارقة «القبيلوجيا» و»الطائفولوجيا» التي باتت  تحكمنا ،وتتحكم بنا،في عصر الرقمنة والتكنولوجيا !! أن هذا التناقض بين عقلية التكنولوجيا السيبرنيتية «المنفلتة»  التي يستخدمها العراقيون يومياً وبكثافة والتي تجعلهم يعيشون في واقع أفتراضي لا تحده حدود،ولا تضبطه ضوابط، وليس فيه «عيب» أو كبير وصغير،ولا تسيطر عليه العشيرة أو الجماعة أو الطائفة أو المجتمع أو حتى الدولة،ومجهولٌ مداه أوغده الآت،يؤمن بالعلم والحقائق وليس الجهل والخوارق،وبين ثقافة موروثة تؤكد على أهمية الجماعة،والمجتمع والطاعة والولاء والتراتب والوضوح وعدم الغموض،والغيب والخرافة. بأختصار فنحن أزاء منهجين مختلفَين للحياة: الأول(المنهج الثقافي التقليدي المتصلب) هو منهج  سلطوي توحيدي جماعي منضبط سواءً بعادات وتقاليد أو قوانين وتراتب قوة،وبين منهج  فوضوي رقمي يتلائم مع ثقافة رخوة Loose  تؤمن بنهاية معايير القوة التقليدية،وباللاحدود واللاسكون والتغيير المستمر وغير الواضح. الخلاصة،فأن تعرض العراق لزلزالَي الأحتلال والتكنولوجيا،أنتج لنا مجتمعاً يرتدي ثوب الحداثة،ويفكر بثقافة الوراثة. ومالم يتم تطويع الحداثة،وأعادة ضبط الوراثة فسنبقى نعيش آثار الرثاثة.

 

 

 


مشاهدات 79
الكاتب منقذ داغر
أضيف 2024/09/25 - 10:35 PM
آخر تحديث 2024/09/27 - 10:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1045 الشهر 39602 الكلي 10028224
الوقت الآن
الجمعة 2024/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير