حدثت هذه الواقعة الشتائية سنة ألف وتسعمائة وسبعة وتسعون ، وكنا فيها على هجرة تكاد تكون يومية من مساء غاليري الفينيق الثقافي وعلامته الأشهر هي طاولة الشاعر عبد الوهاب البياتي ، إلى ليل حانة الياسمين القريبة . للبياتي مائدته الخاصة في الحان وضيوفه الذين يصطفيهم ، وكان معنا الراحل الجميل حمودي الحارثي والشاعر محمد تركي النصار والشاعر علي عبد الأمير عجام والمسرحي حسين علوان ، وحلَّ علينا بحسن المصادفة أو بسوء الحظ كما سيتبين لاحقاً الصحفي معد فياض .
على رنين كؤوس عرق حداد الذهبي ، قرأ البياتي قصائد من ديوانه الجديد « البحر بعيد أسمعه يتنهد « ، فسكرت الجلسة وطابت النفوس وعلى باب أوشالها ، غادر علي عبد الأمير
وفعل مثله أبو علي بعد أن دفع فاتورة الحساب الثقيل ، ويبدو أن من تبقى من كائنات السهرة ما زال برؤوسهم مساحة لاحتساء المزيد . قال معد إن لديه زجاجة خمر فاخرة نائمة بصندوق السيارة ، واقترحت عليهم أن أستضيفهم حيث أسكن بمنطقة تقع لصق سجن جويدة المشهور ، فصفق الجمع وحملنا معد بسيارته ، وفي الربع الأول من الرحلة وقفنا عند دكان بيع الخضار واشترينا رقّيّة عظيمة على السكين ، وبمنتصف الدرب أخرجت لنا إشارة ضوئية خافتة لسانها الأحمر ، لكن الحماقة قد أخذت منا نصف العقل ، لذلك طلبنا من معد أن يضرب الإشارة ويلبس القانون ففعل ذلك طائعاً وضاحكاً ، وما هي إلا دوسة بانزين واحدة حتى لمعت أمامنا سيارة نجدة تعوي . حاولنا الإعتذار لكن الشرطي لم يقتنع وذهبنا خلفه إلى مخفر شرطة المهاجرين بأول جبل عمان وبتنا ليلتنا بين ضحك ولوم وندم ، وهنا جاء دور حمودي الذي قدم لنا والسجناء الكثير من التمثيل الطازج والقفشات اللذيذة ، وعندما وصل الضابط ليفتح لنا محضر توقيف سألنا الأسئلة المعتادة ومنها سؤال غريب عن إسم الأم فنطقنا بأسماء الأمهات المباركات ، إلا عبوسي الذي قال للضابط بصوت مرتجل واثق إن من العيب يا جناب الآمر أن تعرف أسماء أمهاتنا ، فغرقت قاعة السجن المؤقت بضحك عظيم ، وفي ظهيرة اليوم التالي تم إطلاق سراحنا وانتهى اليوم والليلة بوعد لا يثنى .
البارحة مات حمودي الحارثي أو عبّوسي وفق تسمية أهل العراق العليل ، وترك خلفه الموس والحلاق والسبورة السوداء . بمقدوري الآن الإنصات لحواره الأخير مع ضيفه ملك الموت الرهيب . ربما طشَّ عليه سلة نكات مثل رشوة تأخير ، لكن المؤكد لي هو أن الضحاك العظيم قد طلب من الملك الصارم دقائق معدودات ، فقط من أجل ترتيب السرير وخلع ورقة أخيرة من روزنامة الحائط الباهت .