كنت جالساً فوق كرسي عالٍ قائم تحت شجرة بمقهى تشبه تماماً مقهى الروضة الدمشقية البديعة ، بإستثناء وجود الجايجي أبو داوود وهو من علامات كهوة حسن عجمي بحيدرخانة بغداد العزيزة . سألته عن مختار المكان لبيد المكنى بأبي حالوب ، قال لقد ترك المدينة منذ ستٍ عجاف ولا أدري أين حل به الدهر الآن .
حزنت كثيراً واستعدت بعض شريط جميل ما زال يلبط بخواصر الذاكرة وثنياتها ، وكدت أبكي من شدة الحنين والوحشة ، لكنّ أبا داوود كان زرع أمامي دلة القهوة المرة ، فصعد بخارها الطيب إلى باب الخشم ، وبعد رشفتين مشاكستين لفم الفنجان ، انفتح باب المكان بقوة ودخل حشد من شباب رائعين ، بدا على وجوههم وما ظهر من رؤوسهم المغطاة بالكوفيات الدالة ، أنهم يعيشون بمنتصف الثلاثين حتى أخير الأربعين ، مع احتفاظهم بحيوية العشرين .
جلسوا جميعاً حول طاولة واحدة طويلة كانت أعدت لهم ، حيث انزرع أمام كل واحد منهم فنجان قهوة مقلوب على وجهه وبجانبه ركوة صغيرة تشبه التي حطت على مائدتي تحت شجرة السدر البهية كما لو أنني بانتظار بيعة ثانية .
كانوا يتحاورون همساً وبطريقة الوشوشة ، أما كبيرهم الذي استوطن الخاصرة ، فكان يتحدث معهم بلغة الإشارة التي يستعملها الخرسان ونراها اليوم محبوسة بمربع على شاشة الأخبار .
بفضول قوي كاسح تمكنت من فك الجزء الأعظم من الحديث، وكان واضحاً أن العلامات والحركات التي ترسمها الأكف وعضلات الوجوه وزم الشفاه ونفخ الهواء ، هي من النوع الذي يتصل بالطيران والصواريخ المجنحة والمسيّرات الواثقات شبيهات الأبابيل وحاملات السجيل ، وكان مهوى الأصابع ومسقط النهايات فوق خريطة ملونة هي تمام فلسطين الحبيبة وما حولها ، فزادني المنظر بهجة ورضا عظيم ، وكدت أنط من مكاني وأصنع لهم دبكة الحرية الرائعة ، حتى عاجلني النادل المشورب القاسي أبو داوود بكفه الغليظة ومنعني من القيام ، وأخرج من فمه المتخفي ضحكة غير معهودة ، مرة ساخرة هازئة ، فنهرته وشتمته ووجهت له تهمة قاتل الأمل، فردَّ عليَّ بصفعة لا تثنى أسقطتني من على سريري بصومعتي الباردة ، غادرت معها بقايا ذلك الحلم اللذيذ !!!