الأستاذ الدكتور محسن جاسم الموسوي لـ(الزمان): الأجيال الشعرية العراقية تتفاوت في قوة الإنتشار
عمر علي
بعد السلام، وضع قبعته على الطاولة، وبدأ ينقب، يبحث، يتأمل فيما حوله، ثم أطرق ملياً في المكان الذي حوَّلَه سريعاً من مقهى هادئ إلى قاعة محاضرات، وفي الوجوه الحاضرة التي حولها إلى طلبة، وبدأ بحركة من أصابع يده اليسرى، داعبت بها جانب رأسه فأطلقت العنان لحديث متدفق نقل إليه حرارة الشاي المستقر أمامه، تاركاً إياه في برودة لا توثقها الصور، وإن كانت أمينة في نقل بقية التفاصيل.
ا. د محسن جاسم الموسوي الكاتب، والروائي، والباحث والناقد على المستوى الدولي، أستاذ الأدب العربي في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الامريكية، أهلاً ومرحبا بكم على مائدة الزمان بعد غياب طويل عن الصحف العراقية
منذ بداية القرن 19 الى الآن، مر على المشهد الثقافي العراقي الكثير من الشعراء، منهم الباقون وأكثرهم زائلون، لم؟.
- هناك علاقة وثيقة للثقافة بالقوة، وبخلاف ما قد يتصور الكثير، فإن القوة هنا بمعنى الحضور الأوسع، إذ كلما كان الحضور اوسع لظاهرة ثقافية مهمة كانت لها قوة في الإنتشار ومن ثم البقاء برغم مرور الزمان الذي يطوي بمروره صفحات الكثير من الشعراء.
فظاهرة الشعراء عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة على سبيل المثال كانت هي الظاهرة القوية آنذاك، لذلك استأثرت باهتمام كبير في المنطقة العربية، وكان لهذه الظاهرة عوامل قوة مضافة، فالمنبر الأساسي لها كانت مجلة الآداب التي بذل فيها رئيس تحريرها د. سهيل ادريس جهدا كبيرا بخاصة أن أطروحته للدكتوراه كانت عن القصة العراقية وكان منهمكا في هذا الاتجاه، زائداً أنه اعطى نازك الملائكة منبر الآداب، وفتح المجال واسعاً امام السياب والبياتي، والمناقشات التي دارت حول أشعارهم، وهذا واقع حال أكد أنها كانت ظاهرة ثقافية حقيقية غير مصطنعة، ولا سريعة الإندثار.
الجيل الشعري الستيني الذي أعقب جيل الرواد، هل كان امتداداً لهم أو ارتداداً؟
- نعم ظهر فاضل العزاوي وعدد من الشعراء الآخرين كفوزي كريم، وخالد علي مصطفى (العراقي الهوى الفلسطيني الولادة)، وسامي مهدي، وغيرهم، وظهرت بظهور العزاوي مجلة البيان الشعري نهاية الستينات، لكن لم يكتب لهذه المجموعة أن تكون امتداداً لجيل السياب والبياتي والملائكة، واندثرت بعد سنة، لأنها لم تتفق على رأي، وهم مختلفون في الرؤيا، وكان وعيهم محدودا باستثناء الوعي الذي جاء به فاضل العزاوي لأنه كان دارسا للغة الانجليزية ومطلعا على الشعر الانجليزي، ومع أن اللغة العربية متميزة لدى الجميع، وتطلعاتهم كانت جيدة جدا وواسعة الافق، لكنها كانت مصطنعة، وبالتالي لم تشكل حتى هامشا في الثقافة العربية، لأنهم كانوا يمثلون ظاهرة سطحية لا يمكن لها أن تتعمق.
الجيل الشعري السبعيني، هل كان حلقة وصل بما سبق، أو حلقة فصل؟
- ظهر في الجيل الشعري السبعيني شعراء جيدون كزاهر الجيزاني، وسناء كاظم، وخزعل الماجدي، وكان الامل أن يتقدموا كثيراً لتكوين ظاهرة شعرية، لكنهم تأثروا بشعر أدونيس، فبالتالي أخفقوا منذ البداية، وحاول زاهر ان يبتعد من هذا الطريق بطرق اخرى وكاد ان يحقق نجاحا، وانشغل اخرون بالعمل، ولم يتفقوا على رأي أو مبدأ أو اتجاه، ولم يحققوا أثراً حتى زالوا كظاهرة.
لو أخذنا ظاهرة شعرية ناجحة كالسياب، كيف يمكن تشخيص عوامل قوة هذه الظاهرة عن قرب؟
- بداية، الظواهر الشعربة لا تتشكل بحكم التمنيات، وإنما بحكم الحوار مع الواقع -محلياً أو عربياً -لأن الحوار مهم في تطور الظواهر، والسياب تحديداً لم يهتم بان يكون رائدا في الشعر، وإنما كان مشغولا بهمه الشعري، وكان يقرأ ويتابع، حتى أنه كما أكد لي احد الكتاب الذي هاجروا مبكرا من العراق استعار منه في نهاية الاربعينات وتحديداً في مقهى حسن عجمي ديوان شعر أدث ستوارت الذي يضم قصيدة عن المطر، وهي قصيدة تُشبه نزول القنابل على لندن بمطر اسود، فأخذها السياب وأشر عليها في الكتاب، وقام بتطويرها الى انشودة المطر، وهنا جمع بدر بين التمكن من احتواء العامل المحلي وكان في الوقت نفسه متجاوبا ومتحاورا مع افق أوسع، إضافة لكونه مدعوماً بقدرة شعرية حقيقية لا مصطنعة، فلا بد أن يتكلل كل ذلك بالنجاح.
يبدو أننا أخذنا كفايتنا من الشعر، وهنا نسأل كيف يمكن تحديد موقف النقد من الظاهرة الشعرية العراقية؟
- موقف النقد ينبغي أن لا يُجامل، ولا ينبهر من الظواهر الشعرية، لأن الناقد ليس مسؤولاً عن الإنبهار أو الدعاية، بل عليه تحديد الظاهرة ضمن قراءة متأنية، وتقديم الرأي الذي قد يؤخذ أو يُرْفَض. وأمامنا مثل عن الشاعر والناقد الإنجليزى ت. س إليوت الذي قدم في حينه مقالات نقدية مهمة، خصوصاً (لتراث والموهبة الفردية) الذي ظهر مبكرا جدا في القرن العشرين لكنه لم يظهر في الثقافة العربية إلا في الخمسينيات، فأوجد من خلال ذلك اتجاهات فعلية في النقد بحكم قدراته الذاتية، وتأملاته كشاعر، ورسم طريقاً لمن يأتي بعده في تحقيق طموحات مؤثرة.
من خلال تدريسك للأدب العربي والعراقي في جامعات شرق أوسطية عدة وجامعة كولومبيا في أمريكا حالياً، كيف ينظر العالم للثقافة العراقية؟
- لنبدأ بوضع بعض النقاط، منها: أن الأديب العراقي انهمك في الهم العراقي، وهذا أمر مهم يحمد عليه، وكنت استشهد بنماذج كثيرة عن ذلك في محاضراتي للطلبة في الجامعة، لكننا نتحدث الآن عن الظاهرة كيف تنشأ وكيف يمكن لها أن تروج.
من المهم بيان أن الأدب لا يمكن أن يكون منعزلاً مع همه، حتى لو كان الأديب مرتاحاً بهذه العزلة لأن هذا لا يهم أحداً، وهذا واقع حال بالنسبة لقراءة الخارطة الثقافية العالمية، وآن الأوان للأديب ان يكون واقعيا ازاء نفسه وازاء ثقافته، وأن يترك العزلة والاعتزال.
كذلك، ينبغي ان نعلم أن الثقافة العراقية والعربية عموما هي عبارة عن هامش صغير جدا في فضاء الثقافة العالمية ولا يمكن ان تذكر حتى بالمقارنة مع ثقافات امريكا اللاتينية لان ثقافاتها دخلت من خلال لغة لها جمهور واسع، وهذا الجمهور يلتقي بالثقافة العالمية بطرائق اخرى سواء عن طريق الأندلس، أي إسبانيا، أو عن طريق أمريكا اللاتينة أي عن طريق اللغة الاسبانية، إذ أن ربع تعداد العمالة في امريكا هم من جنسيات امريكا اللاتينية، والهامش العربي لا يزال محدوداً جدا من الناحية السكانية.
أيضاً، لا يوجد مسعى ثقافي عربي مدروس، وإنما ظواهر ولمعات واشراقات مفككة، حيث توجد طموحات عالية في هذا المكان واخفاقات في مكان اخر، ومن الصعب الحديث عن ظواهر عربية في ظل مثل هذه الاوضاع، كما أن عدد المثقفين العرب الذين يكتبون بلغات اخرى ويتحاورون بها لا يزال محدوداً جدا سوا على الصعيد الاكاديمي أو الثقافي.
كيف يقفز المثقف العراقي والعربي من الإندثار إلى الإنتشار؟
- لا يحتاج المثقف أيّاً كان التوسل لبلوغ غاية ما، وإنما عليه الإعتناء بانتاجه، والإبتكار فيه، عندها سيبحث عنه الكثير، كذلك يمكن للروائي والشاعر سلوك سبل الانتشار الاعلامي بما يضمن ايصال مجموعة من انتاجه الذي ليس من الضرورة أن يكون متميزاً جداً، فأحمد سعداوي مثلا كتب رواية فرانكشتاين، وعلي بدر كتب (حارس التبغ) وكُتِب لكلتيهما الإنتشار، لكن على صعيد التنظير النقدي للرواية هل يمكن القول أنهما روايتان عاليتان؟، الجواب لا، ليستا كذلك، أولا لأن هذا السؤال ليس مطروحاً لانهما -السعداوي وبدر- كانا ياخذان بواقع الظاهرة الصحفية للكتابة، وهي تقوم على كتابة تقرّب لغة الأدب من لغة الإعلام والصحافة والرواج، بدليل أن البطل والمحور في الروايتين صحافي!، وهما أدركا أن هذه الظاهرة هي السائدة الآن.
وعندما تسال: هل هذه الظاهرة راسخة في الآداب العالمية لفترة طويلة؟، فالجواب: إلى الآن لا، نعم توجد ظاهرة أن يكون الصحافي شخصية محورية في الرواية، لكنها لم تتاسس في النقد الروائي أصلا.
تدور كتابات عراقية حول رفض ظواهر دينية محلية كثيرة، وهي انعكاسات فرضتها الظروف الحالية، من وجهة نظركم، إلى أين تسير بنا هذه الكتابات؟
- ظاهرة الرفض ليست وليدة اليوم، فعندما تبتدئ الثقافات معاناتها من مشكلة، كما حدث في بداية العقود الثلاثة الاولى من القرن العشرين، كانت ثقافة رفض تقوم على سخريتها من الظاهرة الشعبية للديانات، وتسخر من المعتقدات العامة، مع ان المعتقدات العامة حقيقة واقعة سواء آمن المثقف بها أو أبى، فهي ثقافة عامة، وتمثل مجموعة طقوس واعتبارات وعادات لا تلغى من قبل أحد، وهي موجودة وثابتة، ولاعلاقة لها بما يكتب لها وعليها، فالناس الذين يمارسون الطقوس هم أنفسهم يؤدون الفروض ومتآلفين معها، وهي عبارة عما يسميه ريموند وليامز البنى الشعورية للمجتمعات>
وهذه البنى لا يمكن لمثقف ان يتناساها او يتكبر عليها او حتى يتجبر عليها لانه سيفشل، فالجيل الاسبق من المثقفين سواء طه حسين أو يحيى حقي او توفيق الحكيم حاولوا في هذا المجال واخفقوا وتراجعوا تدريجيا خاصة بعد ما رأو اساتذتهم من الأجانب يعترفون بهذه الطقوس، لذلك ينبغي ان نفهم ان هذا الواقع يحتاج الى فهم اخر ودراية اخرى إن رغبنا بإقامة ثقافة راسخة ترتقي لظاهرة.