فاتح عبد السلام
كنّا في السابق، حين نجد باحثين أكاديميين قد ضمنوا أطاريحهم الجامعية لنيل شهادات الماجستير والدكتوراه، مقابلات وحوارات أجروها مع المعنيين بمضامين بحوثهم، كانت الثقة تتعزز لدينا فيما كتبوا لانهم يستندون الى ركن جديد في المعلومات لا يوجد في الكتب والمصادر العادية، وكانت المقابلات الميدانية والحوارات المباشرة تعزز غالبا الاطاريح والبحوث في المجال الإنساني، كالدراسات التاريخية والأدبية التي تخص مراحل تاريخية من حياة شخصية ما، او حقبة زمنية، أو تيار، أو مدرسة في الأدب والتأريخ، وما يتصل بهما.
في عالم اليوم، وبعد ثلاثة عقود متواصلة من تدفق المعلومات، عبر مصادر عديدة لم يعهدها الباحثون من قبل، تمثلت في الشهادات والمقابلات والتصريحات والحوارات المسجلة والمذاعة عبر اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، فضلا عن القنوات التلفزيونية التي عنيت بمقابلات استقصائية في المعلومات وعبر شخوصها الحقيقيين، وقت وقوع الحدث.
غير اننا لا نجد لهذه المصادر الجديدة والتي وفرتها تكنولوجيا الشبكة العنكبوتية بشكل عام، اثرا في البحوث والأطاريح الجامعية التي تكتب الان، ومازالت أدوات تقصي المعلومات في الجامعات العراقية قديمة ومستهلكة الا ما ندر.
وهذا النادر بحد ذاته ليس مكتملا وغير معزز بحقائق ذات طبيعة مزدوجة في معاينة الشهادة والشهادة المقابلة لها.
من الصحيح القول، ان هناك الكثير من الغث والمزور والمزيف على شبكات التواصل، ولكن في المقابل هناك تسجيلات تتوافر على معلومات دقيقة من شهود العيان لا يجري الاخذ بها، لاعتبارات شتى، وغالبا ما تكون اعتبارات سياسية ومناطقية، وربما دينية ومذهبية.
ومثال على ذلك، إن دارسي تاريخ العراق الحديث الجدد، لاسيما لفترة انقلاب 14تموز 1958وقيام الجمهورية، اذ لا نجد أحدا منهم توقف عند شهادة الدكتور والمفكر الكويتي عبد الله النفيسي، الذي قال في مقابلة مسجلة على يوتيوب، وهو رجل أكاديمي ترأس قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، ومتخرج من أعرق الجامعات البريطانية، إذ قال انه قابل السفير البريطاني لدى بغداد هامفري تريفيلين، في فترة زوال الملكية وقيام الجمهورية، واخبره في مقابلة بثها تلفزيون الكويت قبل عقود، ان الزعيم عبد الكريم قاسم كان احد (رجالاتنا) في إشارة الى انه كان رجل بريطانيا في العراق.
وبغض النظر عمّن يرضى او يسخط او يندد او يستنكر، فان المرور بشكل عابر على هذا المفصل الأساسي في التغير السياسي من بناء العراق من الملكية الى الجمهورية، هو عملية تزوير بحد ذاتها، اذ كان العهد الملكي متهما بانه ذو ولاء لبريطانيا العظمى، وهذا الدبلوماسي البريطاني يكشف حقيقة مغايرة في ان الانقلاب على الملكية الموالية للندن، كان بعمل وتأييد من بريطانيا، مباشرة.
وهذ الدبلوماسي كان قد تقاعد منذ سنوات بعيدة وغادر منصبه، وليس مضطرا كأي دبلوماسي بريطاني رصين، ان يتورط في شهادة تاريخية مزورة.
ان الباحثين في تاريخ العراق تجاهلوا أو كانوا يجهلون هذه الحقيقة، ولكن بعد كشفها من قبل شهود العيان الأساسيين، يكون لزاما على المؤرخين إعادة النظر في قراءاتهم وتحليلاتهم لسير الاحداث منذ سقوط العهد الملكي حتى الحقب الانقلابية التي تلته في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
رئيس التحرير-الطبعة الدولية