جيلان تحت سقف الدراسة
محمد ثابت آل غازي
في الزمن الجميل ..زمن الشتاء العراقي الأصيل الذي كان يمر على البلاد ببرده القارص وعطائه الوفير كانت رحلة العلم تدفع بالصلابة والكفاح كانت المدارس قليلة ومتباعدة وكانت خطواتنا الصغيرة تنسج على خيوط الصباح الباكر نقطع مسافات طويلة قد تتجاوز الساعة مشياً على الأقدام في بعض المناطق ولم نكن نرتدي سوى ما تيسر من الملابس التي بالكاد توفر الحد الأدنى من الدفء لأجسادنا الغضة.
وكنا نسير على حواف السواقي المتجمدة ونتسابق في محاولة تكسير طبقة الجليد بأقدامنا التي كانت ترتدي أحذية بسيطة ومهترئة وفي كثير من الأحيان كانت أحذيتنا تتلف قبل أن يتهشم الجليد! ومع وصولنا كنا نقف صامدين في مراسيم الاصطفاف اليومي والبرد يتسلل إلى عظامنا ولم تكن لدينا وسيلة لتدفئة أصابعنا المتجمدة سوى حركة بسيطة هي احتكاك الكفوف ببعضها البعض مراراً وتكراراً.
لم يكن دخول الصف مسموحاً إلا بعد إكمال كامل المراسيم اليومية التي كانت تتخللها تأدية الأناشيد الوطنية الجميلة التي ما زالت أصداؤها تتردد في ذاكرة الجميع كـ (موطني...ولاحت رؤوس الحراب... ونحن الشباب) وبعدها ندخل الصفوف التي لم تكن تختلف كثيراً عن الفضاء الخارجي بسبب كثرة النوافذ الكبيرة وتكسر الزجاج مما كان يسمح لتيار الهواء البارد بالانسياب كالـ (سيف البتار) داخل الغرف الدراسية وعندما يشتد البرد كان بعض المعلمين جزاهم الله خيراً يكلف فراش المدرسة بجلب (تنكة) لإيقاد الحطب داخلها لتكون وسيلة التدفئة المتاحة والوحيدة.
مصنع قامات
وعلى الرغم من قسوة الظروف وشح الإمكانيات فقد كانت هذه المدارس هي المصنع الذي صدر لنا القامات فمنها تخرج الطبيب والمهندس والضابط والإعلامي والأديـــــب والشاعر والفنان والأستاذ الجامعي والمدرس والمعلم وكل موظف ومواطن شارك في بناء هذا البلد العظيم في عصره الذهبي.
أما اليوم فقد انقلبت المعادلة وتوفرت للتلاميذ والطلاب كل وسائل الراحة التي قد يحلم بها جيل الأمس وأصبح التنقل سهلاً بفضل خطوط النقل المريحة التي توصلهم إلى أبواب مدارسهم حتى لو كانت المسافة لا تتجاوز الـ 100 متر عن سكنهم فالصفوف مجهزة وفي معظمها تجد مكيفات الهواء ووسائل التدفئة الحديثة التي تحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء .. كما توفرت لهم الكتب والملازم والأجهزة اللوحية والإنترنت وأصبح العالم بين أيديهم بضغطة زر واحدة .
في المقابل وعلى الرغم من هذه الوفرة الكبيرة في سبل الراحة والمواد التعليمية يرى الكثيرون أن هناك تحديات جديدة قد أثرت سلباً على مستوى الصبر والتحمل لديهم أو على الدافع الذاتي للاجتهاد والمثابرة التي عرفها الجيل السابق وأصبح الطالب اليوم يقضي وقتاً طويلاً على الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي مما قد يشتت تركيزه ويقلل من وقت مراجعة الدروس كما أن سهولة الحصول على المعلومة قد لا تصاحبها بالضرورة عمق المعرفة الذي كان يتطلبه الجهد والمثابرة في الماضي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ..
هل وفرة الإمكانيات والراحة المتاحة لطلاب اليوم ستنتج جيلاً بنفس صلابة وإنجاز الجيل الذي تحدى قسوة الظروف؟ أم أن الإصرار والعزيمة هما العملة التي لا تتغير قيمتها في مسيرة النجاح بغض النظر عن زمن المدرسة ومناخها؟