الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شعب الكبسة والجلاد

بواسطة azzaman

شعب الكبسة والجلاد

ياس خضير البياتي

 

في بلاد الرافدين، حيث الحضارات القديمة كانت تصنع الأبجدية وتعلّم الأمم فنّ الكتابة، ولد جيلٌ جديد يتقن فنّ إعادة انتخاب جلاديه كل أربع سنوات بشغفٍ يستحق التسجيل في موسوعة غينيس للعبث السياسي. هذا الشعب المسكين العبقري في آنٍ واحد، يشتكي من المظلومية التاريخية صباحًا، ثم يذهب عصرًا إلى صناديق الاقتراع ليمنح صوته لمن سرق خبزه بالأمس، ويدعو له بالبركة في المساء!

في العراق، الديمقراطية ليست تجربة سياسية بقدر ما هي مسرحية تفاعلية يؤلفها الجمهور نفسه ويُخرجها بدموعه، ثم يصفق لها بحرارة وكأنه يشاهد أوبريت الوطنية الزائفة بنكهة الكبسة. الناخب العراقي يؤدي دور الضحية بإتقان مسرحي، يذرف الدموع أمام الشاشات، ويصرخ ضد الفساد، ثم يُصوّت للجلاد ذاته بفرحٍ طفولي وكأنه ينتقم من نفسه.. العراقي بارع في كبسلة الوعي، يخلط المظلومية بالولاء، والنقد بالتطبيل، والدمعة بالتصفيق. يبدأ نهاره باللعنات في مجلس القهوة، وينهيه بالتصفيق بحرقة في حفلات “النصر الانتخابي”، حيث الفاسدون يحتفلون، والضحايا يوزّعون الحلوى لأنهم خسروا من جديد! هكذا يتحوّل صندوق الاقتراع إلى قدر كبسة سياسي: تُخلط فيه الطوائف والأحزاب والعشائر، ثم يُقدَّم للشعب على أنه “وجبة ديمقراطية متكاملة”، مع قليل من البهارات الإعلامية لتغطية رائحة الفساد.. أما القوى المدنية — وفي مقدمتها الحزب الشيوعي — فقد بقيت مثل شامبو ضد القشرة في بلدٍ يغرق بالشحوم الفاسدة. نظافة اليد صارت عيبًا، والاستقامة تهمة، والبرامج الوطنية تُعامل كإعلانات صابون الغسيل وسط برامج الطبخ السياسي. الشعب رأى وزراءً شيوعيين خرجوا من السلطة أنقياء الجيب، فاتهمهم بأنهم “ما يعرفون من أين تؤكل الكعكة”، لأن في عرف العبث العراقي، الوزير الناجح هو من يملك عمارة لا سيرة حسنة!

وخسارتهم كانت الجواب الأبلغ لمن عاتبني يوم قلت إن دخول الحزب الشيوعي إلى الانتخابات كان خطأً استراتيجيًا. كنت واثقًا أن الحزب الشيوعي والقوى المدنية سيخسرون، فالمشهد لا يحتاج إلى فلسفة ماركس ولا هيغل لقراءته؛ فالأمر أوضح من لافتة انتخابية على شارعٍ مظلم. باختصار، المدنيون دخلوا ملعب السياسة بأحذية نظيفة… في وقتٍ صار فيه الطين هو الزي الرسمي للوطن.

في العراق، الشعب لا ينتخب… بل يمارس رياضة القفز فوق المنطق. كلما اقتربت الانتخابات، يتحول العقل الجمعي إلى ريموت كنترول معطوب: يضغط زر الشكوى صباحًا، وزر الولاء مساءً، وزر “العفو عمّا مضى” عند منتصف الليل. ثم ينام قرير العين مقتنعًا أنه مارس “واجبه الوطني”، فيما يمارس الساسة واجبهم في اقتسام الغنائم.

العراقي كائنٌ معقد ومتناقض: ينام مهمومًا بالمظلومية، ويستيقظ على أمنية أن يعود الجلّاد إلى السلطة “حتى يمشي البلد”. يمارس جلد الذات بإتقان، كأنما الديمقراطية عنده طقس ديني مقدّس، يُؤدى كل أربع سنوات مع قليل من النفاق الوطني والدهن الحرّ. يكره الفساد علنًا، ويصوّت له سرًا، ثم يشتكي منه ببلاغةٍ تستحق نوبل للمعاناة المتكررة.

خلاصة المشهد: في المجتمعات التي يختلط فيها الجهلُ بالتبرير، تزدهر أسواقُ السياسة الفاسدة. فكلما ضعف وعي الناس، كثر اللصوص الذين يرتدون ربطة عنق، وتكاثر الجهلاء الذين يتحدثون باسم الوطن. الشعب المزدوج الوعي يصنع حاكمه على صورته: يسرق منه في النهار ويصفق له في المساء.

فإلى أن يتغير هذا الشعب، ستبقى الكبسة السياسية تُطهى بالوصفة نفسها، فقط مع اختلاف التوابل كل أربع سنوات. ودوام الحال… من ديمقراطية الكبسة إلى صبيحة فاصوليا يابسة!

 


مشاهدات 33
الكاتب ياس خضير البياتي
أضيف 2025/11/14 - 11:18 PM
آخر تحديث 2025/11/15 - 12:55 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 33 الشهر 10339 الكلي 12571842
الوقت الآن
السبت 2025/11/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير