الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قبل الولادة

بواسطة azzaman

قبل الولادة

فاروق الدباغ

 

حين يصف ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات في كتابهما «كيف تموت الديمقراطيات» مسارَ انهيار النظم الديمقراطية، فهما لا يتحدثان عن دباباتٍ تقتحم القصور أو بيانات انقلابٍ تُذاع في منتصف الليل، بل عن موتٍ بطيءٍ يبدأ من داخل المؤسسات نفسها. فالديمقراطياتكما يقولانلا تُقتل بالسلاح، بل تذبل عندما يُفرّغها قادتها من معناها، ويتحوّل النص الدستوري إلى غطاءٍ لهيمنةٍ حزبية، وتُستبدل روح المواطنة بشهوة السلطة.

من هذا المنظور، يمكن القول إن الديمقراطية في العراق لم تَمُت بعد تجربةٍ طويلة، بل وُلدت ميتة.

الولادة المعجّلة على يد الاحتلال

بعد 2003، جرى تفكيك الدولة العراقية بسرعةٍ غير مسبوقة، وأُقيم نظامٌ سياسي على أنقاض نظامٍ شمولي، دون عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ أو حوارٍ وطنيٍّ جامع. جاءت الانتخابات قبل بناء الثقة، والبرلمان قبل بناء مؤسساتٍ محايدة. وبدل أن تكون «العملية السياسية» أداةً لتداول السلطة، تحوّلت إلى سوقٍ للمحاصصة، تُقسَّم فيه المناصب كما تُقسَّم الغنائم. وهكذا انتقل العراق من استبدادٍ عسكريٍّ إلى استبدادٍ طائفيٍّ مموّهٍ بالديمقراطية.

المحاصصة: الوجه الشرعي للانقسام

نظام «المحاصصة الطائفية» لم يكن مجرد خللٍ سياسي، بل كان تشويهاً بنيوياً لروح الديمقراطية نفسها. فالأحزاب التي يفترض أن تكون حارسةً لقواعد اللعبة، تحوّلت إلى مافياتٍ سياسية تتقاسم الدولة وتمنع قيام أيّ معارضةٍ وطنية حقيقية. تحالفات السلطة لم تُبنَ على البرامج، بل على الولاءات المذهبية والإقليمية، حتى غدا البرلمان ساحةَ مساوماتٍ أكثر منه مؤسسةً رقابية. وهكذا وُلدت دولةٌ هجينة: فيها انتخابات وصناديق اقتراع، ولكن بلا ثقة، وبلا مواطنة.

انهيار الحراسة الحزبية

في التجارب الديمقراطية المستقرة، تلعب الأحزاب دور «الحارس الداخلي» الذي يمنع المتطرفين من الوصول إلى الحكم. أما في العراق، فالأحزاب نفسها هي التي جلبت المتطرفين إلى مؤسسات الدولة. كل حزبٍ أقام جيشه الخاص، وكل زعيمٍ حمى نفسه بميليشيا. ومع دخول «الحشد الشعبي» إلى المعادلة السياسية، تداخل السلاح مع القرار، وتحوّل الأمن إلى أداةٍ للابتزاز السياسي، فانطفأت آخر شموع الفصل بين الدولة والسلطة.

تدخّل الخارج .. وغياب السيادة

لم تعد الدولة العراقية تملك قرارها الكامل. التدخلات الإقليمية والدولية حوّلت السياسة إلى مسرحٍ تتقاطع فيه المصالح الأجنبية أكثر مما تتجسد فيه الإرادة الوطنية. إيران وأمريكا وتركياكلٌّ منها يضع إصبعه في قلب المعادلةبينما المواطن العراقي يتفرّج على وطنٍ يتنازعه الخارج، ونخبةٍ تتنازع الغنائم.

انتفاضة تشرين : النبض الذي سبق الموت

في تشرين 2019، خرج جيلٌ جديد يطالب بوطنٍ لا طائفي ولا تابع. لكن الرصاص سبق الإصلاح. المتظاهرون لم يسقطوا نظاماً، بل كشفوا عُريَه. أدركوا أن صناديق الاقتراع لا معنى لها حين يُصادر القرار السياسي بالسلاح والمال، وأن الديمقراطية التي لا تحمي حقّ الاحتجاج هي قشرةٌ بلا مضمون.

لماذا ماتت الديمقراطية قبل أن تولد؟

لأنها لم تُبنَ على عقدٍ اجتماعي، بل على صفقةٍ سياسية.

لأن الأحزاب لم تحرسها، بل ورثتها كغنيمة.

لأن القضاء لم يكن مستقلاً، والجيش لم يكن محايداً، والإعلام لم يكن حرّاً بما يكفي.. ولأن الخارج تدخّل، والداخل استسلم، فماتت الفكرة قبل أن تصير ممارسة.. ومع ذلكلم ينتهِ الأمل

الديمقراطية ليست نصّاً دستورياً، بل سلوكٌ يوميٌّ وثقافةٌ جماعية.

إنقاذها في العراق يبدأ من إعادة تعريف السياسة كخدمةٍ عامة، لا كوسيلةٍ للغنيمة.

ويبدأ من تفكيك منطق المحاصصة، وبناء مؤسساتٍ تخضع للمساءلة، وتحويل الأحزاب من أدوات ولاءٍ إلى أدواتِ رقابةٍ على السلطة.

فالديمقراطية التي تُبنى على الخوف تموت في أول اختبار، أما التي تُبنى على الشجاعة، فحتى الموت لا يُطفئها.

 

 

 

 


مشاهدات 34
الكاتب فاروق الدباغ
أضيف 2025/11/14 - 11:17 PM
آخر تحديث 2025/11/15 - 12:55 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 33 الشهر 10339 الكلي 12571842
الوقت الآن
السبت 2025/11/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير