ملامح من السيرة العطرة للإمام الكاظم (ع)
حسين الزيادي
ان الوقوف على طبيعة المسيرة العلمية والجهادية لحياة ائمة أهل البيت عليهم السلام، والمسار العقائدي الذي اتخذوه ليس بالأمر المتيسر، لان الظروف المحيطة بحياتهم تختلف ،كما ان التحديات والنظم الاجتماعية تختلف هي الأخرى بحسب المراحل الزمنية، والمتتبع لحياتهم عليهم السلام يلحظ ان مسألة الحفاظ على شريعة جدهم مثلت التحدي الأكبر لهم ، لانهم يمثلون الامتداد الطبيعي لهذه الشريعة، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية اقامة نظام اجتماعي عادل يرتبط بالعقيدة الإسلامية ، من خلال نشر المفاهيم الإسلامية الحقة والتصدي للشبهات والتيارات الفكرية والعقائدية التي استهدفت الإسلام بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه واله، لانهم كانوا يستشعرون اكثر من غيرهم مايهدد الاسلام من مخاطر وانحرافات.
كان أهل البيت عليهم السلام يمثلون الاتجاه الإنساني النبيل، ويحولون مبادئ الإسلام وقيمه الى سلوك وعمل، ولاعجب في ذلك فهم الامتداد الطبيعي للرسالة السمحاء التي استهدفت تحرير الإنسان من براثن الظلم والعبودية ، ولنا في سيرة الإمام موسى بن جعفر مثالاً رائعاً لهذا المشروع الحضاري الكبير الذي يزخر بالمواقف والمفاهيم الإنسانية النبيلة، فقد كانت نشاطات الإمام عليه السلام التربوية والتنظيمية كاشفة عن عنايته الفائقة بالجماعة الصالحة وتخطيطه لمستقبل الأمة الإسلامية، لذا كانت مدرسته العلمية الزاخرة بالعلماء وطلاّب المعرفة معلماً إسلامياً حضارياً يقف بقوة أمام التيارات المنحرفة التي وفدت بقوة بعد توسع اتجاهات العالم الإسلامي، وتربي الفطاحل من العلماء والمجتهدين وتبلور المنهج المعرفي للعلوم الإسلامية والإنسانية معاً.
لقد حفلت حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام بعطاء علمي وجهادي زاخر على الرغم من قضاءه ردحاً طويلاً من الزمن بين قضبان السجون وظلم المطامير، وهذا العطاء لم يتوقف على مجال معين ، إذ بقيّ الإمام الكاظم عليه السلام ثابتاً مقاوماً على خط الرسالة والعقيدة لا تأخذه في الله لومة لائم حتى قضى نحبه مضحياً بكل ما يملك في سبيل الله وإعلاءً لكلمة الله بعد ان عانى أقسى ألوان الخطوب والتعذيب والتنكيل.
طفولة الامام
عاش الإمام طفولته الزاكية في كنف والده الإمام الصادق عليه السلام، فكانت طفولة مميزة، نهل بها من علم النبوة، ورضع من ثدي الايمان، فتجمعت في سنه المبكرة عناصر التربية الإسلامية، واحرز جميع انواع التهذيب والكمال، وتوج بالمواهب المبكرة والعبقرية الفريدة، فاشتهر بكرم النفس وسخاء اليد، ومساعدة المحتاجين وقضاء حوائجهم، فكان يتفقد فقراء المدينة ليلاً ويحمل لهم المؤنة والمساعدة، أما عبادته فقد أجمع الرواة على أنّه (عليه السلام) كان من أعظم الناس طاعة لله، ومن أكثرهم عبادة.
وقد أعرض عن الدنيا ومباهجها وزينتها، فكان آية في الزهد والورع والتقوى، وكان بيته خالياً من جميع أمتعة الحياة، فقد تحدّث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ(عليه السلام) فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، فَإِذَا لَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ إِلَّا خَصَفَةٌ وَسَيْفٌ مُعَلَّقٌ وَمُصْحَف.
وقد اجمع المسلمون بجميع اطيافهم ومرجعياتهم ومذاهبهم من محدثي الإسلام ورجال الفكر والعقيدة على إكبار الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وتعظيم شأنه، والاعتراف له بالفضل والعلم والمكانة، وكثرة الكرامات، واستجابة الدعاء، والكرم والحلم والحكمة والفضيلة وسعة العلم ، وهذه الشهادات المتواترة يتعذر ذكرها جميعاً لكن يمكن الوقوف على بعضها، ومنها ماذكره عبد الرحمن الرازي 327هـ في قوله: كان ثقة صدوق وامام من ائمة المسلمين ، وذكر اليعقوبي 255 هـ ان الإمام موسى بن جعفر من اشد الناس عبادة، وقال عنه عمر بن بحر الجاحظ 255 هـ : اين انتم عن موسى بن جعفر ؟ ومن الذي يعد من قريش او من غيرهم مايعده الطالبيون عشرة في نسق كل واحد منهم، عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر ، زاك وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب او العجم، اما الجوزي 597 هـ فقال: كان كثير التعبد جواداً، واذا بلغه عن رجل انه يؤذيه بعث اليه بالف درهم وخرج الى الصلح، وكان كريماً حليماً.
اما فخر الدين الرازي 606 هـ فقال عند تفسيره لسورة الكوثر: ان المقصود بها هم اولاده صلى الله عليه واله وسلم لانها نزلت فيمن عاب الرسول الاكرم، فاعطاه الله نسلاً لاينقطع كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، واسهب بن عربي 638 هـ في وصف الإمام وبيان كراماته فقال: على شجرة الطور والكتاب المسطور والبيت المعمور والسر المستور والرق المنشور والبحر المسجور واية النور ، كليم ايمن الإمامة ، منشأ الشرف والكرامة نور مصباح الارواح جلاء زجاجة الاشباح مركز الائمة العلوية محور فلك المصفوية، النور الانور أبي ابراهيم موسى بن جعفر عليه صلوات الله الملك الأكبر.
أما كمال الدين بن طلحة الشافعي 652هـ فقال بحق الإمام الكاظم عليه السلام: هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد ،الجاد في الاجتهاد المشهور، بالعبادة المواظب على الطاعات ، المشهور بالكرامات ، ولم يذهب ابن ساعي البغدادي بعيدا عن ذل فقال: هو صاحب الشأن العظيم الفخر الجسيم كثير التهجد الجاد في الاجتهاد المشهور بالكرامات.
خدمات جليلة
لقد قدم الإمام عليه السلام للإسلام خدمات جليلة ورعاية كبيرة ، فقد بلغت ارواياته الصحيحة التي اوردتها المصادر (2138) رواية فقهية موزعة على جميع ابواب الفقه الاسلامي، وكانت تلك الروايات والمسائل مطابقة للأحكام التي قدرها آباؤه عليهم السلام لانهم ينهلون من منهل واحد، وعلى كثرة العطاء العلمي والفكري للامام وتميزه في العلوم والمعارف الاسلامية ، فقد كان حريصاً على تدعيم الفكر الاسلامي، وتعميق الرؤية الفكرية، وتحصين الامة بوجه الانحرافات والتيارات الفكرية، متأسياً بسيرة ابيه الصادق عليه السلام، فكان قبساً من نور النبوة المحمدية التي ملأت اركان الدنيا سمواً ونبلاً وفضيلة فكانت سيرته عليه السلام تعج بالشمائل والسجايا والاخلاق العالية وهو بهذا يعكس المعدن الاصيل والمنبت الكريم والنسب الرفيع لشجرة ابى الله سبحانه الا ان تزداد مع الزمن علواً وارتفاعاً .